مقتطفات الجمعة 58
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في "مقتطفات الجمعة" رقم 58 ، أرجو أن تنال رضاكم.
قضية الأسبوع: الحادث القاسي الذي وقع لـ "مهند جبريل بودية" شابٌ من عباقرة الأرض، وأعنيه حرفيا، لأنه فاز على مجموعات ذكاء من شباب الدنيا بمسابقات عالمية، ومخترع لعدة اختراعات، منها الغواصة التي سماها "صقر العروبة" تيمنا بعاهلنا عبد الله بن عبد العزيز، هذا الفتى الذي لتوه خطا العقد الثاني من عمره.. بُتـِرَتْ قدمُه. والسبب كما يقول يوسف السحار مسؤول جمعية المخترعين السعوديين: سوء الإجراء. يعتب السحارُ أولا على الهلال الأحمر الذي تخطى في طريقه ناقلا مهند أكبر المستشفيات الحكومية في الرياض إلى مستشفى خاص، وأن المستشفى غير مجهز لعملية ساق معقدة، ثم تأخرت العملية ست ساعات لأن لا رجل يوقع عن مهند، فتعقد وضع الساق، ولم ينجحوا في نقله إلى مستشفى حكومي مجهز إلا بعد 60 ساعة، فأخبرهم الطبيب لو أحضرتموه بعد العملية بست ساعات لأنقذنا الساق بالقسطرة.. وكان قد مرت 60 ساعة! وقد أعرضُ رسالة السحار الذي يطالب فيها بتعويض حياتي لمهند. مسألة الإنقاذ يجب أن تـُرفع بمهاراتٍ تثقيفيةٍ وتدريبيةٍ في الحالات الحرجة .. هذه المهارات التي ستنقذ في المستقبل أقدامَ وحياة شبابٍ مثل مهند. ما دفعه مهند يكفي.. وزيادة!
ويكتب الأستاذ (فهد عامر الأحمدي) مقالاً بعنوان (بعض الظن غباء) ويرمي المقالُ إلى سوء قراءة المشهد بين شخصين أو أكثر حين تتعطل لغة الكلام، إما لحاجز اللغة وإما حاجز مادي آخر، فذكر قصته في إيطاليا وهو في رحلةِ سياحةٍ تاريخية، ولفته كثر التحذير من التجوال في محطة القطار في روما، وفي ذات المحطة ترجل من سيارة أجرة وفوجئ بشابٍ غريب الهيئة ينادي عليه، والأستاذ فهد لا يعرف لغته، ولم يرد، وظن أن الشاب يريد به شرا، فاستعجل بالهرب عنه. ولكن الشابَ جرى خلفه مصرا عليه بالوقوف، فتوقف صاحبُنا ليجد أن الشابَ يسلمه حافظة نقوده التي وقعت منه وهو يخرج من سيارة الأجرة.. ويستنتج الأحمدي أن (الظن المشهدي) - وهذا الاصطلاحُ من عندي - يحذرنا من ضيق تفكير وصورٍ مرسومةٍ سلفا وتيبسا في أذهاننا، توجيه منه لم يقله، وهنا بلاغة الموجـِّه الذكي، بأن نحرص على إضفاء سعة مرونة في أذهاننا وأن نزن الاحتمالات حتى لا تتيبس الصور في عقولنا.. فنتيبس نحن.
واستئنافا للمقتطف السابق فإن هذا "الظن المشهدي" حدث لي شخصيا في مانيلا، العاصمة الفلبينية، وما يقال عن حوادث الإجرام فيها، فقد دلفت مبنى مطار أكينو الدولي عائدا للبلاد، وبينما أنا أتجه لمكتب الخطوط، لمحت في آخر القاعة وراء الجدار الزجاجي عاملَ نظافةٍ يحاول أن يلفت انتباهي بالطرق على الزجاج والتلويح، ولكني أهملته ظنا أنه يريد شيئا مني ليس من حقه، أنهيت أوراق ركوب الطائرة وعدت للقاعة متجها إلى الجوازات، وقد أمضيت ما لا يقل عن ربع ساعة في مكتب الخطوط، ولمحت أن العاملَ مازال بذات الفورة يلوّح لي ويطرق الزجاج، ولكني أغفلته ظنا أنه يريد أن يحقق من ورائي مغنما يستحق كل ذاك الحرص والعناء.. لما وصلت الجوازات، سمعت نداءً داخليا بأن أحد عمال النظافة خارج مبنى المطار وجد هاتفا جوالا، وعلى صاحبه التقدم لتسلمه. تفحصتُ جيبي غريزيا ولم أجد هاتفي. توجهت وتسلمت جهازي، ورحت أسأل عن العامل لأعتذر له، ولعمل أي شيءٍ من أجله.. ولكنه اختفى. لما وصلت مدينتي، في ليلتها، كنت أتريض مع شقيقتي وأحدثها عن قصة العامل الفلبيني الفقير الذي كان ثمن جهازي ربما يفوق كل أجره الشهري، وكيف أنه أعاده لي بشهامة إنسانية نادرة بينما كل الظروف تعطيه الفرصة اللامعة للاحتفاظ به. فجأة.. امتدت يدٌ من مردوفٍ على دراجةٍ ناريةٍ.. واختطفت الجهاز!
ويكتب لي البروفيسور حمدي أحمد من قطر بأن العقل لا يخدع صاحبه بالإرادة السابقة، وأن هذا منحى اعتمد عليه بحثه الطويل ابتداء من دراسات "ايمانويل كانت" الألماني العتيد في مسألة من يسبق في التحكم الإرادة أم العقل المحض؟. وهو ينتقد قولي في برنامج قذائف في قناة "الراي" الكويتية مع الشيخ العوضي أن العقل أحيانا يقرر أن يزيح الإرادة الطبيعية من كرسي القيادة فيتولى القيادة ويصور للإنسان واقعا وإن كان غير موجود. أُورِدُ للبروفيسور والقراء هذه الحادثة المسجلة كشاهدٍ على أن العقل يقفز أحيانا ليقود كامل الوعي، أو اختلاط الوعي، وذلك ما حدث في جادةٍ باريسيةٍ، في عام 1843، عندما كان ممثل إيمائي Mime، يوحي للنظارة بأنه محبوس داخل قفص، ثم حوصر في وهمه العقلي الذي صور له أنه مسجون في قفص فعلي.. وكانت النتيجة أنه عطش وجاع حتى مات!
أنا من متابعي مجلة "ماد" Mad الأمريكية اللاذعة السخرية بالكرتون والمقالة، منذ سنوات المراهقة، وما زلت أحصل عليها بين الفينة والأخرى، وقرأت أن القوات الأمريكية عثرت في مقر القاعدة المهجور في أفغانستان على سبعة وعشرين عددا من مجلة "ماد"، وأن من أُسِرَ من رجال القاعدة أكدوا أنها لأسامة بن لادن الذي يجمعها ويقرأها. وإني أؤكد هنا أن لا صفة أخرى تجمعني مع "أسامة بن لادن" غير أننا من جمهور مجلةٍ واحدةٍ.. لا غير!
كنت قد سئلت سؤالا في زاوية "اسألوني" الأسبوعية في جريدة "اليوم" عن أعقد جهاز تقصٍّ في العالم، ولم أستطع أن أجد إجابة شافية، حتى بسؤال الخبراء. ثم يسر اللهُ لي أن أقرأ عن "الخفاش البُني" في فنزويلا.. هذا الخفاش مزود من الخالق سبحانه وتعالى بأعقد جهاز تقصٍّ في الكون - كما أحسب - لماذا؟ يستطيع هذا الخفاش بفضل جهازه الاستشعاري أن يطير في يومٍ ممطرٍ بين قطرةٍ المطر والأخرى قبل أن تصيبه القطرات، ويصل إلى كهفه... جافـّا!
في أمان الله..