مقتطفات الجمعة 57
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 57 ، أرجو أن تنال رضاكم.
قضية الأسبوع: برنامج شاعر المليون..
في الخامس عشر من الجاري كتب في "الاقتصادية" الأستاذ "عبد المجيد بن عبد الرحمن الفايز" مقالا بعنوان "كفانا نعرات جاهلية، أوقفوا شاعر المليون" ويورد الأسباب التي يتكئ عليها لتنفيذ ما يرى أنه صحيح، ونتفق تماما مع أخينا الفايز بأن الشعر الشعبي ومسابقاته قد ذهبت بعيدا في استظهار النعرات الممجوجة، والعزة الكاذبة، والشوفينية القبلية المجوفة، وتحقير من هو خارج القبيلة. نعم العواقب كبيرة، والذي نقل كل هذه البضاعة العارمة (وسيلة نقل) اسمها "الشعر الشعبي". وهنا أريد السماح لي بمواجهة رأي أستاذنا العزيز، إني أرى أن من أكبر أخطائنا إذا أخافتنا (بضاعة) محمولة على (وسيلة نقل) قمنا بإحراق البضاعة والوسيلة معا، ثم ندرك متأخرين أننا أشعلنا كامل الأرض لتعيد إنبات ما حرقناه أشد وأكثف وأعرض انتشارا. الشعرُ الشعبي أثبت، أحببناه أم كرهناه، أنه وسيلة خطرة تنقل الآن بضاعة خطرة، وهو وسيلة خطرة لأنها سريعة ورشيقة وتصل لأهدافها بومض البرق الخاطف. وهنا يجب أن نتأمل قليلا، بعد أن نشغل ممسحة إزالة الغضب من واجهة الرؤية في عقولنا، ونفند المعطيات، كما يفعل الرياضيون، بهذه المعادلة: وسيلة سريعة + بضاعة سيئة = نتيجة سيئة، إذن لو أبدلنا العامل المعروف "بضاعة سيئة" بعامل معروف آخر وهو "بضاعة جيدة"، فستكون المعادلة كالتالي: وسيلة سريعة + بضاعة جيدة = نتيجة جيدة. نتعلم من التاريخ المسجل اليومي أن ما نمنعه ينتشر انتشار السموم في أجواءٍ جافة، ويكون غاية المنى الحصول عليه، وتقفز له أسواقٌ وطرقٌ خفية تضفي عليه سحرا ومغامرة.. الصحيح- برأيي- أن يُستخدم الشعرُ الشعبي، إغراءً ومكافأة وتربية وتنقية وتخطيطا، لينقل فكرَ الوحدة الوطنية والأخلاق الرفيعة وشحذ همم المحبة والتعاون والتكاتف، وإقامة مسابقات المليون وحتى العشرة ملايين تحت هذه الضوابط.. وهنا يكون التفريع والسماح هو الحل، وليس المنع ضد رغبات الجموع الذي يبقى أمرا ورقيا تلتهمه نيران إقبال الناس عليه بعد منعه!
"ناصر الفراعنة" لم يفز بالبيرق في مسابقة شاعر المليون الظبيانية.. وعندي أنه لم يتغير شيء، بل ربما تغيرٌ إلى الأفضل، الانتقال من الفوز المؤقت إلى البطولة الباقية، تحول من التصويت الإعلامي إلى الاحتفاء الشعبي.. الفراعنة ليس من الشعراء الذين يفوزون في المسابقات الدورية ثم يُنسَوْن، إنه من الشعراء الذين يمرون في الذاكرة ثم يبقون. ناصر الفراعنة يرسم مدرسة جديدة للشعر الشعبي، شعرٌ يرتقي إلى مرتبة الفصيح، ويجاور تخومَ الحكمة، وينطلق في آفاق الثقافة.. حباهُ الله بما حبا أكبر الشعراء المنشدين، من أيام ذي القروح قيس، إلى المتنبي، وغنائيات شكسبير، وإلقاءات الشعراء العراقيين الأنوفين كالرصافي والزهاوي والجواهري والنواب، وشكل عنصرا جديدا حين أضاف للخلطة الشعرية لونا قزحيا لم نعهده من قبل، وعززه بالإلقاء بصوت رخيم، ومخارج ناصعة للحروف، وحُنجرة مليئة بالنبرات الفخمة والاستيحاءات الصوتية الأخاذة.. وبهباتٍ أخرى منها الطلة الرجولية، والجاذبية الشخصية، وميلٌ بالفم تقول عنه مدرسة لمبروزو الإيطالية إنها صفة لمن يقودون حركة في الزمن.. لا، ليس الفراعنة من طينة الفائزين، إنه من عنصر الأبطال.. واستنهاضُ أسطورةٍ ستبقى.
ننطلق إلى شساعات الكون بلا نهاية، فنجد أننا عدنا إلى نقطة البداية. هذا ما يقوله الدكتورُ "خالد اليحيا" الذي قدم في مركز الأمير سلطان للتقنية (سايتك) في الخبر، محاضرة من محاضرات العمر، وصفٌ لم أقله، بل قاله الصديقُ المهندس النابه أحمد السويدان، وسمعت من كل من التقيت من الحضور أكثر من تشبيه وصفة وكأنهم يتبارون بالتنبيه عن دهشتهم واستمتاعهم بمحاضرة نادراً أن تقام في قاعاتنا، محاضرة من نوع جديد، حيث يمتزج العلمُ الفيزيائي مع التصوف الرياضي الكوني، مع العقل الإنساني الخلاق، ومع ملكوت الله السابح في الأزل.. شابٌ عميق الذكاء والثقافة استوقفني ليقول: أشكركم، كانت "أوبرا فكرية".
كانت محاضرة الدكتور خالد اليحيا عن "اللانهاية"، تلك التي نسمعها كل يوم، ونقولها كل يوم، ولم نفطن إلى أنها شيء عدمي أو أنه ينتهي في سحيق العدم، وجاء خالد ليكشف في المحاضرة نوعا جديدا من المعرفة التأملية الرياضية الفيزيائية الفلكية والفنية في موضوع شغل العقل الإنساني من أول تاريخ تكون العقل كجهاز للتفكير، وسيبقى ما بقي العقل. وحبا للجميع أود أن تعاد المحاضرة في أرحب الأمكنة، وخصوصا في جامعاتنا.. خصوصا في جامعاتنا.. (هل تريدون أن أكرر الجملة حتى ما لا نهاية؟!)
محاضرة الدكتور خالد اليحيا لم تكن رخاءً كلها.. هناك شيء ما زال يزعجني. عرض الدكتور خالد على الشاشة كرمزٍ للعقول البشرية المتفوقة صِوَر العالم أينشتاين مع ثلةٍ من العباقرة الآخرين ، ثم سأل الحضور من هو أذكى عقل نعرفه الآن؟ وفجأة أزال رأس أينشتاين ووضع صورتي أنا.. وهذا غير مستبعد! إنما الذي أزعجني أن القاعة ضُجَّت بالضحك؟ ولم أفهم حتى الآن ما الذي يُضحِك في كوني أذكى من أينشتاين؟!!
في أمان الله..