مقتطفات الجمعة 56

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 56
 
لم يتسنّ لي حضور الحوار الوطني المقام في المدينة الجميلة بريدة بالقصيم، لظروفٍ مباغتةٍ، على أن الحوار كان معي، كنت أشعر وأتخيل الجلسات وحضورها وانفضاضها أو العودة إليها، وأنا على بعد مئات الأميال، لأن التنظيمَ كان يبدو رائقا، فتوالت علي رسائل الهاتف كواحد من المفروض أن يكون من المشاركين، والرسائل تبدأ بالترحاب من توقع وصول المشاركين حتى توديعهم، وكانت خريطة منظمة للحضور والانصراف، فتابعتُ، وقتا وخيالا معا، الاجتماعات بفعل هذه الرسائل التي تصلني ولم تعلم طبعا أني أنا الذي لم أصل. وتوِّج بمتابعات هاتفية من منظمي المظاهرة الاجتماعية المهمة حول العمل ومؤسساته وهي الهموم الكبرى للأمة، مما أضفى الطابعَ الحميم والشخصي، والتواصل الشخصي لفتة مهمة تؤهل المشارك نفسيا للتفاعل من واقع هذا التقارب. على أن الزملاء الأحباب المشاركين لم يبخلوا علي بنقل ما يدور في الجلسات، وكان النقلُ متعة لا تضاهى، فعرفت دقائقَ الاجتماعات وملابساتها وقضاياها وتحليلاتها دون الحاجة لإعمال عقلي، عقول متعددة كانت تمدني بالخلاصة والرحيق، فأُثريتُ فوق ما توقعت.. وكأن الحوارَ تصلك فوائدُه الجمة قربت.. أو نأيتَ مئات الأميال!
 
والحوارُ الوطني لما بدأ بتجربة نضجت في تلمس الهموم الحياتية للفرد ثم للمجموع ثم لصالح الأمة حقق نجاحا فوق المأمول، وتحول الحوار من الصراع، وإشعال جمرات تحت الرماد، إلى البناء والتواصل في الهم الواحد، والمصلحة الواحدة.. أي التي لا نملك أن نختلف حولها، بل الكل يسعى إليها أو لتحقيقها. التكاشف الذي تم في القصيم، كما فهمت من النقل الهاتفي، كان صريحا ومكاشفا ومنزوعا من كل غلالات المجاملة والتمويه اللفظي، والمقدم لأفكار الحلول، ووضع الإصبع تماما على الجرح النازف، والضغط على الجرح مؤلمٌ جدا، ولكنه مؤقتا يوقف النزيفَ حتى نلاحقه بالعلاج.. ما تم في حوار القصيم كان اجتماع عقول قررت بإجماع واحد، في مكان واحد، بآمال واحدة، تحت ظل هيئة تنظيمية واحدة أن تقرر أن تضغط بقوة على الجراح لإيقاف النزيف.. وهم يعلمون أن هذا ليس العلاج، ولكنه اللحاق بالمريض حيا إلى أن يتهيأ له العلاج.. فبعد الموت يكون العلاج لا معنى لوجوده أصلا!
 
هل الحوار الوطني هو المنارة التي ستهدي كل مراكب مشاكلنا إلى مرافئ الحلول؟ لا طبعا، ولم يدّعِ الحوارُ ذلك ولا نحن أملنا ذاك الأمل. ولكني أعتبر الحوار الوطني أفضل مجلس في البلاد، الذي نجح في تعرية الجراح، والاعتراف بها، وتشخيصها كحالة حقيقية معترف بها.. لماذا؟ الفضلُ يعود لأمرين: الأول، أن القائمين على الحوار الوطني نجحوا في زرع مبررات الصدق للصدق ذاته، ونجحوا نفسيا في إقناع المشاركين بأنهم صادقون في مسألتي المصارحة والمكاشفة ولم يخيِّب المشاركون ظنهم فقاموا بالواجب على الوجه المتوقع. والثاني، أن المشاركين في الحوار لا تربطهم بالكراسي التي عليها يجلسون سوى صفة الجلوس لا غير فلا إقامة تربطهم بها، ولا مصلحة ولا تعيين، هم فقط جالسون عابرون، والعابر يتحلل من أثقاله من غير قلق من التبعات، كما أن المشاركين هم أصحاب المشاكل أنفسهم، أو أنهم الذين يعيشونها في كل يوم وكل لحظة في دوائرهم القريبة واللصيقة.. فجاءت الآراءُ متحررة من أثقال المجاملة والمحاباة وترصيع الألفاظ الرسمية والدواوينية، وكشفت الجراح بكامل صفاتها مهما كانت النفس تفر منها، لأن هذا السبيل الأوحد للتشخيص، والتشخيص السبيل الأوحد للعلاج. ومجلس الحوار أفضل مجلس في البلاد بهذا الاقتدار.. وسيرسم علائم الطريق الصادقة للاتجاه إلى الطريق الصحيح.. بشرط ألا تتغير هذه الحماسة والإيمان في المصارحة والمكاشفة ورفع أصابع اللوم متى كانت هذه الأصابع ترفعها حبالُ الأدلةِ ومواثيق الحوار.
 
الصديق اللدود الدكتور "محمد القنيبط" يحب أن يلومني على الدوام، ولهذا المفكر الكبير ولعٌ في انتقادي، ويتفنن في استخراج ما يراه خطأ أو لا يلائم توجهاته الفكرية والاعتقادية فيما أكتب، ولأنه عقلٌ ّّذكيٌ شغـّال، ولأني عقلٌ صغير به من الخمول كمية مناسبة، فهو لا يجد مشقة في تتبع ما يراه من الهفوات والخطل بمقالاتي. والدكتور القنيبط خلقه الله هكذا، فهو رغما عنه مخلوق نقدي بالإعداد الغريزي، ولا حيلة له في ذلك، ويعزِّز لسعَهُ النقدي همٌ يسكنه دائما في توخي العالم الأمثل كما يراه ويتخيله ويحلم به. والله يعلم أن كل مجتمع يحتاج لعقل ناقد بالخلقة مثل القنيبط، ولكني آسف أن أتلقى منه الرسائل في نقدي أنا- ربما هذا تفسيره بلغة العقل النقدي: أنا أحبك.. فمن يعلم؟- بينما يجب أن تصرف هذه الطاقة العقلية النقدية لأمورٍ أهم.. ويلومني الدكتور بقولي إن الشعرَ الشعبي مادام أثبت أنه وسيلة ناجحة فلا يجب محاربته وإنما يجب محاربة مواضيعه الخطرة، وتـُحمَّل مواضيعُ به جديدة في اللحمة الوطنية والمعاني السامية، كمثل سيارةٍ قويةٍ وسريعةٍ وتحمل بضاعة ممنوعة ومن الصعب اللحاق بها من قبل سيارات الأمن، فعند القبض عليها من الخطأ إحراق البضاعة والسيارة معا، ولكن علينا تبديل البضاعة السيئة ببضاعة مفيدة والاستفادة من قوة السيارة.. الدكتور عنفني في البداية وبكلمات قصيمية بحتة (اضطررتُ للرجوع لقاموس والدتي لانقطاعنا في الشرقية عن التقعر القصيمي).. ولما شرحت له اقتنع. أما كيف تعرف أن عقلا نقديا اقتنع؟.. حين لا يرد!
 
ومن أجل خاطر الحوار الوطني.. سأتقبل ردّ "د. القنيبط"، المتوقع اليوم، بروح حوارية وطنية.. سأتعلم طريقته!