مقتطفات الجمعة 42
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 42 ، أرجو أن تنال رضاكم. وأعتذر عن تقطع ظهور المقتطفات في الآونةِ الأخيرة لظروفٍ بالغ فيها الأطباءُ، وتساهلتُ بها أنا.
يقام في مدريد تاريخ جديد لحوار الأديان، وبدعوة من عاهل المملكة العربية السعودية، وهي رسالة كبرى ذات مغزى عميق يوجهها الملكُ لجميع من على الأرض بكل أديانِهم، ومللهم ونِحلهم. دعوةٌ سامية لنوايا صادقة للإخاء الكوني.
أرى أن حوارَ الأديان حرفيا هو تكنية أكثر منها معنى صريحا ومباشرا، فالأديانُ ذاتها لا تتحاور، ولا يجوز منطقا الإيمان بأن ذلك ممكن، فكل دينٍ أتى بالضرورة الموضوعية إما لنفي دينٍ (أديان) أخرى تماما، وإما أنه أتى لإصلاح مسار دينٍ انحرف عن مساره الإلهي الصحيح، وبالتالي فالأديانُ تحمل في تكوينها الأساسي الطبيعة اللاالتقائية، فلا هي تتقاطع أو تتنازل لدين بآخر، ولكن..
ولكن، الحوارُ يتم بين من يتبعون ويؤمنون بالأديان، وهو ليس حوارا بالمعنى الذي يتم في المواضيع المادية، والمسائل العلمية، ومنازل العقل بالعموم، ولكنه "مواجهة فكرية" بما فيها من مكاشفاتٍ وتصريح عن أهداف كل دين. ويتفق أصحاب أديان ومِللُ العالم على أنها لإعمام السلام على الأرض بالعناصر الثلاثة: الصفاء والتسامي الروحي التطهيري، والعدل المطلق، والمحبة الإنسانية. ونقول بالتجربةِ وبالواقع المثبت، وشهادات من هم في الطرف الآخر من دين الإسلام، بأن أي مواجهةٍ فكريةٍ من هذا النوع يكون الفوزُ فيها للإسلام. والغربيون بالذات بما قرأتُ لهم، وبحواراتي المتكررة معهم يعجبون، متى علموا، بسعة المساحة المتاحة للعقل في الإسلام وحيداً دون باقي الأديان، بطيفٍ فكريٍّ واسعٍ سمح بظهور متعلقي العقل بأعلى فعالياته وإملاءاته كالمعتزلة الذين قالوا إن العقلَ ضوءٌ يصب في القلب، وهو كفيلٌ بكشف الحقِّ من الباطل، إلى النافرين من العقل وموظفي أقل آلياته من غلاةِ المتصوفةِ الذين لا يرون العلمَ إلا كشفا نورانيا بملامسات الروح وتساميات الانعتاق والإشراق.
وفي لقاءٍ تلفزيوني أدارهُ الأستاذ النجم "جاسم العثمان" في محطة "الاقتصادية" عن حوار الأديان، تشرفتُ أن شاركتُ في اللقاءِ الشيخَ الدكتور عبد العزيز الفوزان، وهو علامة منيرة للعلماء الشرعيين الشباب المستنيرين، وتألق الشيخُ بفكرٍ عريض، وسماحةٍ واسعةٍ مبنيةٍ على فهم عميق للأخوةِ والمحبة الإنسانيتين مع موقف الإسلام الثابت والذي جاء من أجله، وقد يبدو أمام المشاهدين أن الشيخَ وأنا اختلفنا في مسألة الحوار، ولكن كان الاتفاقُ هو السائدُ ولكن بتعبيرَيْن مختلفين.. وبدا الشيخُ أكثر انطلاقا و"تحررا" مني، وبدوتُ كأني الأقل مرونة والأشد تصلبا، ولم يكن تصلبي إلا إيماني الأكيد بأن الإسلامَ هو الدين الوحيد الذي ينتقل سهلا سائغا، وأن كل فرد مسلم هو مشروع داعية، ولا يحتاج الدينُ الإسلامي إلى التبشير ولا الوعظ، في أغلب الظروف، إلا أن يكون المسلم في ترحاله .. مسلماً. وكان هذا السرُّ الصغير للعمل الكبير للحضارم، والمسجل فريدا في التاريخ الثقافي والإنساني الأنثروبولوجي في أكبر انتشارٍ للدين منذ عُرِفت الأديانُ إلى يومنا هذا من قبل فئةٍ واحدة.
ودائما نستعين برأي الأجانب والباقين على أديانهم من كبار المفكرين في الكشف عن قيمة أصل فلسفة الدين الإسلامي، وأكثر من أستعين به هو البريطاني (اليهودي) "برنارد لويس" شيخ علوم الإسلام في الغرب وحجته الأولى باتفاق علماءِ الاستشراق والأديان في العالم الغربي.. فهو من قال إن ازدهارَ الإسلام يأتي معه ازدهارٌ للعلوم والاقتصاد ونشاطات المجتمع والسياسة والتقدم، ويخبو مع خبوِّه. وعرفنا عظيم شعراء الألمان "جوته" فيلسوفا ومفكرا وقاصا وله ولعٌ وإعجابٌ بالإسلام لا يخفيه، والذي لا يعرفه الكثيرون عنه أنه عالمٌ أيضا، وكرّس نفسه ليدحض كثيرا من قوانين "نيوتن" (محققا فشلا خفاقا) وطلع بنظرية الألوان (حول انكسار الألوان على طرف موشور) وتبين أنه أخذها بإيمانٍ علمي من ابن الهيثم. وشـُغِف بالإسلام المتمرد الفكري على الدين المسيحي "برناردشو"، وأعظم من كتب بالإنجليزية ـ برأيي - "أوسكار وايلد" وهو الشقي العابث الماجن بكل شيء إلا احتراما للإسلام ورسول الإسلام. وتولستوي، و"برتراند رسل" والقائمة تطول. دليل على أن المواجهة الحوارية نافعة لأن الإسلام يعطينا المددَ وراء المدد.
وحول مسألة التعايش في الإسلام مع تابعي الأديان الأخرى، فلبرنارد لويس كتابٌ، أثار ضجة قبل عقودٍ، بعنوان (يهودُ الإسلام، The Jews 0f Islam) ويقول بالإنجليزية الصريحة إن الدولة العثمانية الإسلامية هي التي أحسنت استقبالَ اليهودَ بعد اضطهادهم في أوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر حتى الثامن عشر، بحجة ما أشيع عن خطف اليهود لأطفال النصارى لاستنزاف دمائهم لما يُعرَف بصمة الدم Blood label، وعجنه مع الخبز الذي يتناولونه في مناسبةٍ دينية، وبتهمةِ تآمرهم على أغلبية الناس, هذا ما قاله برنارد لويس اليهودي كبير مراجع الشأن الإسلامي في زمننا، وآخرون.
ما يفعله الملك عبد الله عملٌ عظيم لا شك، ولكن لن يمكنه وحيدا من تحقيق الهدف السامي إن لم يتعاون معه الأفرادُ، والأفرادُ هم ملايين المسلمين الذين يترحلون بأقطار الدنيا، ويتعاملون في كل مجالٍ مع شعوب الأرض وليس عليهم أي واجبٍ إضافي أبدا، إلا أن يكونوا مسلمين من النبع الأول الصافي فتتبين صفاتُ المسلم الرفيعة.. وهذا أكثر من كافٍ.
ولكم أتمنى على مفكرينا قراءة كتاب آخر للويس برنارد بعنوان: "ما الخطأ الذي وقع، What Went Wrong?" فهو يقول: "يوما كان الإسلامُ أعظم الأديان على وجه الأرض، وأكثرها انفتاحا، وأوجّها استنارة، وأبعدها إبداعاً، والحضارة الأقوى في العالم، ثم حدث شيء خطأ جعل الغربُ يسجل الانتصارَ وراء الانتصار". وينصح المسلمين وبالذات في الشرق الأوسط قائلا:" لو استطاع الناسُ بالمنطقةِ التخلص من عقدة الاضطهاد Victimhood، والتأسِّي، وتعليق اللومَ على شماعات، وتوحيد صفوفهم، ونبذ خلافاتهم، فهناك أكبر الفرص لهم، بوجود الإسلام، للعودة إلى العصور الوسيطة، حيث أشعت المنطقة على العالم بقوةٍ ومجدٍ، والمركز الرئيس لحضارة العالم". .. ألا توافقون معي.. أن الرجلَ كاد أن يكون مسلماً؟!
في أمان الله..