مقتطفات الجمعة 40

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 40 ، أرجو أن تنال رضاكم.
 
قضية الجمعة: ما زلتُ في مانيلا بدعوة من الرئيسة الفلبينية لحضور خطابها الموجه للأمة الفلبينية في مجلس النواب الفلبيني، والذي شجعني على الحضور هو سعادة السيد سفيرنا محمد أمين ولي، لأنه كان في الخطاب فقرة مهمة عن موضوع نشتغل به وهو الخاص بتنمية زراعية وصناعية في جنوب المنديناو، ولأن السيد السفير كان قد وجه رسالة قبيل موعد الخطاب إلى السيدة أرويو عن حوار الأديان الذي أقيم أخيرا في مدريد تحت رعاية الحكومة السعودية، وبالفعل أوردته ضمن خطابها المهم للأمة، وكانت الفقرة الوحيدة المضمنة في الخطاب خارج الشأن الفلبيني.
 
وقضيتي التي أخذتني عن أحداث الزيارة، وشغلتني تماما هي مرة أخرى مسألة أولادنا وبناتنا المتروكين في الخارج.. ولقد تراكمت عندي القضايا، وقضيت في السفارة ساعاتٍ قابلت فيها بعضهم، وكان يوما باكيا حزينا، وقد قال لي أعضاءُ السفارة وعلى رأسهم السفير إنهم لطالما أقفلوا مكاتبهم للحظات فقط كي.. يبكوا. أريد من كل أبٍ ترك لحمَه ودمه للعذاب والمهانة والقهر والغربة في الدين والعِرق أن يتذكر شيئا واحدا فقط: أنه يوما سيُسأل على السراط. كما أود من جمعية "أواصر" أن تشد حيلها، وإلا ما الداعي لوجودها إن لم يعرف ولا واحد ممن قابلتهم عن هذه الجمعية.. ولم تبق إلا أيادٍ قليلة بيضاء مثل أيادي الأميرة سارة بنت مساعد بن عبد العزيز التي ما زال برنامجها ينقذ بعضا.. ويبقى أكثر.
 
وتصلني هذه الرسالة من "حنان"، بعد أن قابلتها في السفارة في لقاءٍ عاصف باكٍ بعد أن أرسلت لي خطابا من قبل تخبرني عن قضيتها، أنقل لكم بعضا مما جاء فيه عن الإنجليزية: "أشكرك على قضاء الوقت لسماع مشكلتي، لم أعرف شيئا من الراحة منذ ولدت حتى الآن إلا بعد هذا اللقاء. إن وعدك بأن تحاول إقناع والدي كي أهاتفه، فقط لأسمع صوته ملأني بشعورٍ غامرٍ من الترقبِ والأمل. إني لا أريد من أبي شيئا ماديا، فأنا أكسب معاشي بنفسي، ولكني أموت كل يوم لأني أريد فقط سماع صوته، كل ما أريد أن أقول له: "يا بابا أنا أحبك"، حتى ولو لم يحبني في المقابل. أرى أني قد أصبح ما حلمت أن أكونه، إلا أن حياتي ستبقى ناقصة مثل قطعة تنقص لعبة الألغاز، فحياتي لن تكتمل أبدا دون سماع صوت أبي، كياني لن يكون دون أن أسمعه يقول: ابنتي، وجودي غامضٌ ومقلق لأني لم أسمع منه أني كنت في قلبه ولو للحظة. إني أغبط ابنتك بأن لها أباً محبا، كم تتمنى أي بنتٍ أن يكون لها هذا الأب، وأتطلع يوما للتعرف عليها.. ولكن يا سيدي لن أتعرف على أحد لأني بعد لم أتعرف على نفسي، لا أعرف وطني، ولا أعرف ديني مع أني ولدت في مجتمع مسيحي إلا أني لم أذهب لكنيسةٍ قط، قلبي يمنعني، ولا أدري لماذا؟ هل هو صوت أبي في الأعماق؟..". انتهت رسالة حنان، ويبقى شيءٌ على الأبِ أن يعلمه أن "حنان" لم تذهب إلى كنيسة ربما بغريزةٍ غامضةٍ، ولكنها أيضا لم تصلي صلاة إسلامية قط.. لأنه لم يكن هناك ليعلمها. فمن يتحمل ذنبها؟
 
وكتبت لكم يوما عن البنت السعودية التي تعلق الصليب، وتعمل سكرتيرة قنصلية في سفارة خليجية، هذه المرة تواصلت مع السفير القطري الأستاذ عبد الله المطوع وهو رجل رائع بكل المقايس، ودبلوماسي عالمي الاحتراف، وإنسانٌ يتسامى بحسِّهِ البشري عاليا، وكان يؤرقه موضوع البنت السعودية: "هي بنتنا كلنا" كما يقول.. ولقد رتب لي لقاءً مع البنت السعودية في سفارتنا، وأحضرها بنفسه. تحدثت معها طويلا، وسيكون لها موضوع مستقل قريبا بإذن الله، لأنها شخصية فريدة، عبقرية ونابهة، وقدرتها على البقاء والانتصار على الظروف خرافية.. ولما تكلمنا عن موضوع الدين عرفت منها أنها خلعت الصليبَ فما لبسته إلا جهلا كما قالت.. وكان هناك دورٌ خفي من السفير المطوع الذي يعطي درسا مثاليا إنسانيا وإسلامياً، وغيرة تجري في الدماءِ الأبية.. فهو قد أعطاها نسخة من المصحف الشريف، وكان هذا كفيلا بإعادة الأنوار لقلب الفتاة، وأشرقت بأنها مسلمة، وبكت كثيرا عندما وصلنا لهذه المسألة.. على أن لهذا قصة تـُحكى.
 
نحن الآن في طور تأسيس رابطة للأبناء والبنات السعوديين المتروكين في الفلبين، ووجدت أن هذه الرابطة ستكون حلا بديلا للذين لم يقبلهم آباؤهم، ولم يريدوا عنادا ومكابرة وتيبسا الاعتراف بهم، كي تربطهم ببلادهم، وتعيد ارتباطهم بدينهم وانتماءاتهم، وتكشـَّف لي من مقابلاتهم مع بعضهم أنهم خير علاج لأنفسهم فهم يعانون الظروف ذاتها، ويحملون الألم ذاته.. فصاروا يملأون لبعضهم فجوة فظيعة، وهي فجوة الإحساس بالإهمال وبعدم الأهمية وبأنهم لا شيء أو نقيصة بسبب شطبهم من حياة آبائهم. وتحتاج هذه الرابطة إلى تأييد ودعم فهي الأملُ الأخير كي لا يضيعوا الضياع الأخير!
 
وحدثتكم هنا عن البنت المريضة الصغيرة عائشة الشهراني، ومعجزتها الكبرى هي تحمل الآلام. فهي في مستشفى في العاصمة الفلبينية من أشهر عديدة موصولة بالأنابيب عبر أبر كي تعيش، لأن كليتيها توقفتا نهائيا عن العمل، والحكومة الفلبينية أوقفت عمليات التبرع بالكلي وكانت الضحية عائشة. على أن موضوع عائشة تحرك للأمام بفضل الله، ثم بفضل مكالمة جرت أمامي من قبل سفيرنا لرئيس اللجنة المسؤولة عن تبرع الكلى الفلبيني.. وكانت مكالمة حاسمة وقوية ومؤيدة بالأدلة والتبريرات، ونرجو أن تكلل الجهود بعودة عائشة لوطنها وأهلها وهي في تمام الصحة. وقد زرتها بمعية الأستاذ الصديق فهد المصيبيح رئيس مكتبنا الصحي، ومعنا ممثلة رابطة الأبناء والبنات السعوديات، لشد عزم عائشة.. ولكنها هي التي شدت عزمنا. ورغم صداقتي القوية مع عائشة، إلا أنها وقفت ضدي مائلة إلى صف الأخ المصيبيح لما تحدثنا عن الكرة وتعرضتُ للهلال قليلا فقط.. فإذا هي والمصيبيح كتلة واحدة ضدي.. حتى أني شككت إن كانت عائشة الشهرانية.. أم عائشة الهلالية!
 
وأخيرا.. ونحن ماضون في طريقنا إلى مقر مجلس النواب الفلبيني لحضور خطاب الرئيسة، فاجأني السفيرُ محمد ولي، بطريقته الفريدة، بأن مد يدَهُ إلى جيبه الداخلي ليتناول ورقة مطوية بعناية، وإذا هي مقالة في "الاقتصادية" للدكتور عبد الله الرزين عن موضوع السلطان يحيى والأرض التي خصصها لاستثمار السعوديين. وقدم لنا الدكتور الرزين وهو عنا آلاف الأميال دعما معنويا سيعزز لقاءنا مع سلطة جنوب الفلبين بقيادة السلطان يحيى هذا اليوم الجمعة. وسيكون مقال الدكتور أول الأجندة!
 
في أمان الله..