مقتطفات الجمعة 36

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفاتِ الجمعةِ رقم 36 ، أرجو أن تنال رضاكم.
 
أتقدم لكم جميعا بالتهنئة بحلول شهر رمضان الكريم، أعاننا الله على صيامه وقيامه.
 
قضية الأسبوع: غضبُ الأجيال. إني أحب أمتي، مثل أي واحدٍ منكم، وأرجو أيضاً، مثل أي واحدٍ منكم، أن يحبها كلُّ من يعيش على ترابـِها، ويتنسمُ الهواءَ تحت سمائِها.. ولكن حتى حبّ الأوطان مرهونٌ بشروطِ معيشةٍ ومقتضياتِ حياة.. الحقيقة التي تعرفها وتعيها ذاكرةُ الشعوب بحكمها وأمثالها، مهما اختلفت طرائقُ التعبير، أن الوطنَ تحدده عناصرُ الكرامةِ والرزق والأمان.. أي، الفرصة بأن يحيا الإنسانُ إنسانا، وهذا الذي يجعل الناسَ تهاجر من مكانٍ إلى مكان.. بحثا عن إنسانيتهم.
 
وتصلني الرسائلُ من شبابنا وهم غاضبون يائسون، وقلوبهم الشابة مليئة بالحسرة والأسى وسيلٍ لا ينتهي من الأسئلةِ والتساؤل.. وحذارِ من غضب الأجيال حذار، فهم عماد الأمة وأصل أصولِها.. إن من يقرأ رسائلَ الأولادِ والبنات، وهم متروكون وراء عتبات الجامعات، تكاد الدنيا أن تسدل ستاراً كاتماً على قلبهِ وروحهِ وآمالِهِ الكِبار.. وأختار رسالةً واحدةً لشابٍ لم يترك غضبـَه محبوساً فرشـَّهُ بالتمام على الجميع:" لقد "طردتني" كل الجامعات والكليات وفرص الابتعاث، لقد خذلتُ نفسي وأهلي وكل ما اعتقدت يوما أن عليّ عمله وهو أن أجتهد وأسهر الليالي ثم أحصد النتائج بقدر ما عملت.. ولكن الإحباطَ والقهرَ هما ما قطفتُ من شجرةٍ مُرّةٍ لا تـُنبتُ إلا الحصرمَ المُر.. إني ألومكم جميعا فجيلكم هم أبناء الطفرة، أنتم من وجد الجامعات تحتضنكم حتى ولو لم تحصدوا إلا أقل الدرجات، وبلا مقابلات، ثم توظفتم مدللين وأغدقوا عليكم الأموال.. ثم نسيتمونا، وتركتمونا للحسرةِ والضياع، لولا خوفي من الله لكرهتكم كلكمم".
 
المسألة كبيرة جدا، واليوم لن ألوم، ولن أعتب، ولن أغضب، فالخطأُ يحصل، وقلنا في أكثر من مقال إن عنصرَ الرؤية الفسيحة كان ينقص ما عملناه بالماضي من أجل المستقبل، وإننا نقع أسرى لمتطلبات وضغوطات اللحظة، وهذا سيئ لأنه يسلب منك بـَراحَة الوقتِ للتأمل والدراسة والوزن بين البدائل في اتخاذ أي قرار.. أظن اليوم عليَّ أن أهدأ، فلا يحل الغضبُ واللومُ أمرا، بل يزيد الجمرَ المتقدَ لهيباً. والحل؟
 
للحلِّ، نحتاج أولا إلى أن نفرق بين الخطط المحصورة في التوسع الجامعي، وفي الخطة الواسعة الاستراتيجية في هذا المضمار. لطالما صببنا جامَ الغضبِ على مديري الجامعات، ولكن الجامعات مربوطة بخطتها المحدودة، وبأهدافها وبرسالتها، أفهم تماما أن تعلن جامعة من الجامعات أنها لن تقبل إلا عددا محدودا ومشروطا من الطلاب للحفاظ على جودة راقية ونادرة.. على عيني ورأسي، فهنا لن أطالب مدير الجامعة بأن يقبل الآلاف في جامعةٍ وضعت ضوابطَ لنفسِها ثم طبقتها عدلاً وإنصافا.. ولكن سأرفع الأصبعَ في صدر واضعي الخطط بالتعليم الجامعي إن لم يجد من لم تقبله تلك الجامعة المشروطة مقعداً في مكان آخر.. فلكل جامعةٍ رسالة تختص بها من أجل الأمةِ (متى صدقت جادة في العمل من أجل تحقيقها)، ولكن لأبناءِ الأمة مطالب في الحق بالتعليم الجامعي، أو الفرص البديلة المهنية والمساعدة، فالشبابُ لم يعد كما قد يعتقد البعض "متطلبون" جدا، بل هم في النهاية يريدون أن يؤمِّنوا مستقبلاً، وأن يرتاحوا لـ "مسار حياةٍ" كي يتوظفوا، ويعملوا على بناءِ أسَر قادرين على أن يصرفوا عليهم.. وهنا تكون المسئوليةُ مسئولية المخطـِّط الاستراتيجي، وليس واضع الخطة التكتيكية داخل الحرم الجامعي.
 
على سبيل المثال: جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ما زالت محدودة للأولاد دون البنات، وهذا قد يكون شأنا تكتيكيا يتبناه مخطط الجامعة لنظرةٍ (قد) يُقنع بها من هم داخل الجامعة وخارجها، وهنا لن نرفع حاجباً للوم والانتقاد، فقد "يكون له عذرٌ وأنتَ تلومُ" ولكن سيكون اللومُ واسعا وحادا حين لا تجد الفتاةُ مقعدا بديلا في أي جامعة أو كلية أو معهد.. أظن أن من هنا البدء بتحديد المشكلة هيكليا قبل أن تتزاحم الأصابعُ على الصدورِ الخطأ.. وقبل أن نجرف ونحن في حِدّة غضبـِنا وحاجتنا خططاً وآراء سليمة قامت على وضعها عقولٌ سليمة التفكير والنوايا.
 
نشكر لمدير جامعة الملك فيصل ومعاونيه من عمداءِ الأقسام الذين حرصوا على الاجتماع معي ضمن خطةٍ جيدةٍ للخروج للرأي العام وسماع وجهاتِ النظرِ خارج معاقلِهم الأكاديمية، وطـُرِحـَتْ مواضيعُ كثيرةٌ، ووصلنا، معاً، لنقاطِ التقاءٍ أود إعلانها عليكم قريبا، وكانت تلك مبادرة جميلة جدا، كما وُضع على مائدةِ النقاشِ مسألة الجودة في المخرجات الطبية من قِبَلِهم، وأن القبولَ لا يمكن أن يكون متسعا بلا حدود من أجل خدمة قضية الجودة، وتخريج الطبيب والطبيبة اللذيْن يستحقان حمل صفتهما كما يجب حسب أفضل المعايير الطبية.. وهذا حسَنٌ، وللجامعة أن تشكـِّل مفهومَها الخاص بها بشرط ربطه بالصدق والجدية والقابلية للقياس من خلال إجراءٍ زجاجي مفتوح للرؤية العامة. ولكن.. لن يكون مقبولا أبداً للبنت المتفوقة والولد النابه اللذين صرما عمريهما من أجل تحقيق حلميهما أن يكونا في المهنة الطبية (مثلا) ألا يجدا مقعدا آخرَ داخل البلاد في جامعاتٍ موجودة وبديلة ولها نظرات تكتيكية أخرى ضمن دائرة المهنية والقبول العلمي.. بينما من السهل أن يجدا كرسيا في الأردن أو قطر أو الشارقة أو اليمن، أو السودان.. ويأتيان متخرجين مقبولين في الصنعة المهنية الطبية بالبلاد..
 
مرة أخرى، حتى نجعل للمشكلة شكلا محدد الهوية، يمكننا تفهم أن كل جامعةٍ محدودة جغرافية وطبيعة، فمن الناحية الجغرافية لا يمكنها أن تتسع وتتضخم بلا حد، وإلا ساحت على الأطراف، وتجمّد الشحمُ على مفاصل الحركة وعضلات النمو فينشل كامل الجسد ويتبلد، كما أن لكل جامعة، ويجب أن يكون، نظرة تطلعية مدروسة في وضع أطرٍ مدروسةٍ لطبيعة وقدرة وجودة ونوعية مخرجاتها، فيحدد هذا بالتالي انعكاسات حركتها في القبول العام.. ومن هنا نطالب الجامعات بأن تطبق ما اقتضته ظروفـُها وخططها التكتيكية فمتى ما ثبت أنه صالحٌ فلا يجب المساسُ به.. وسيبقى الرضا والقبولُ متعذِّريْن حينما لا يجد الأولادُ والبناتُ جامعاتٍ أو كلياتٍ أو معاهدَ بديلة.. ولا أظن – أبدا- أن تحقيق هذا أمر مستعصٍ على العقول المناط بها وضع الخطط الصحيحة لأهم منشطٍ من مناشط البلاد.. لأهم فئةٍ من فئات البلاد.
 
أتمنى أني قلتُ شيئا من الحقِّ والحقيقة، وبعضَ الرأي الذي يتلمـَّسُ الصحة.. لأنه – واللهِ- .. يكفي!
 
في أمان الله..