مقتطفات الجمعة 32

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 32 ، أرجو أن تنال رضاكم.
 
قضية الأسبوع: هل نثق بالبنوكِ وأساطين المال؟ ببساطة، لا. وينبع السؤالُ الثاني، هل يعرفون ماذا يعملون؟ وضح أنهم اخترعوا أجهزة مالية جديدة، وتركيباتٍ حسابية معقدة، وموضة "المشتقات" والأغطية المالية، ثم صارت طلاسم استعصت حتى على سحرةِ المال، وكأن السحرَ انقلب على الساحر، هذا ليس من عندي إنه ما يقوله السيدان "آندي سوير" و"آلان سولان" بمجلة "التايم" الأمريكية العالمية (عدد 29 سبتمبر الجاري)، فهما يقولان استهلالا:" إن الوضع المالي الأمريكي والعالمي بعد الأزمة الحالية مربك بطريقة مرعبة، حتى نحن ( أي الكاتبَيْن) بخبرةٍ مدمجةٍ قدرها خمسة وستون سنة في الكتابة عن التحليل المالي والأعمال، لم نشهد لما حصل مثيلا.. بل إن أذكى من في الصنعة في الخزانة الأمريكية والخبراء الفيدراليين وأساطين البنوك وجدوا أنفسهم يجرفهم التيار، بدل أن يتقدموه.. بالنسبة لنا جميعا: إنه مكان لم نتصور يوما أننا سنزوره." انظر من يقول ذلك يا أخي، إنهم صانعو المالَ وأخبارَه وإدارته. ثورُ "الوول ستريت" فلت من عقالِه، وثار ينطح في متجر التحف الزجاجية الدولي!
 
بمناسبة الثور.. كان غلاف مجلة "التايم" (عدد 29 سبتمبر الجاري) صورة ثور تخرج من عينِهِ دمعةٌ تكسر القلبَ.. والثورُ يمثل التمثال البرونزي الضخم في جادة الوول ستريت في نيويورك، والذي نحته الفنان "دي مونيكا" ليمثل " التفاؤلية المالية المفعمة، والازدهار الفائر للاقتصاد الأمريكي".. ثم راح رمزا عالميا للمال والمصارف. أبدعت "التايم" في التصوير، كنا نظن أن المالَ محصن، وأن من يملك التريليونات لن يعرف إلا مزيدا من القوة.. فإذا هي عصفُ ريح، غبارٌ من شذراتِ الذهب تجمّعت وسطحٍ من رخام فطارت من الزوبعة التي هبت من جهات شارع المال النيويركي ليتعاظم تايفونا عالميا. ووصل معلـِّما التحليل المالي إلى السبب. والسببُ ليس فلسفة مالية ضاربة في التعقيد، ولا مركبات مالية مطوّرة.. إنما سببٌ موغلٌ في تاريخ الطبع البشري: الطمع!
 
مقالة مجلة "التايم" التي ذكرنا في المقتطفِ الأول، عنوانها مثـَلٌ تقليدي منذ بدءِ الرغبة بالاقتناء والاستحواذ: "ثمن الطمع The Price Of Greed" وتصف حال السوق المالي أنه كان لسنواتٍ يزأر ويتمطى بعضلاته وكأن لا شيء يخيفه أبدا.. فرجال الوول ستريت ظنوا أنهم صاروا سادة العالم، لا نظم تقف في طرقهم، ولا محاذير، ولا مخاطر، وانزلقوا بطريق مزخرف بالمنتجات المالية الأنيقة التي يبدعونها كل يوم والمشتقات الفارهة الأناقة.. والثقة المفرطة والزهو توغلتا في أذهانهم وواقعهم وصارتا النافخ للطمع والتجاهل في الوول ستريت.. وعندما تفوّق الطمعُ على الخوف.. نتجت كل المشاكل. وترى أن السببَ طبيعةٌ وحشيةٌ بدائيةٌ ليس إلا، فلا يغرنك الياقات المنشاة، ولا الأجهزة المتناثرة في صالات البوصات، وأروقة البنوك، ولا دفاتر وكتب الدراسات في أكثر جامعات العالم ترفا علميا وأناقة.. إن الذي حرك بركانَ الأزمة، هي ذات الحمم الطبيعية في باطن الأرض. والبركان الذي تفجر، فسالت حممه النارية على أسواق العالم المالية هي اللافا المتوحشة في قلب الإنسان.. الجشع!
 
ما العمل؟ ليتني أعلم. إذا كان أقطابُ المال داخوا مثل سكارى الحانات لا يعلمون.. وثورهم بكى دمعا حارا.. فلا أظن أن أحدا من عندنا هنا يملك كل الأجوبة، علينا أن نتعلم من المحنة، وأن نكون صريحين مع أنفسنا ونكشف عن أضرارنا التي تبعت الزلزال المالي التي لم تعه ذاكرة بشرية من قبل ( نقلا حرفيا من أفواه كبار محللي المال العالميين) وأن نجد الوسائلَ لتخفيف الارتطام. إني أتوقع أن الحل يكون بأن تشكل الآن "غرفة قيادة ورصد" في وزارة المالية مشكلة من كبار متخصصي الاقتصاد والمال، وأساتذة الجامعات، وخبراء المصارف.. لمتابعة التغيرات باللحظة، واقتراح الخطوة القادمة، قبل أن نـُجـَرّ من أقدامِنا في طريق لم نرده، فنصل لمكان لم نرد ولا نرغب أن نزوره! نريد كشفاً بالخسائر.. مواطنٌ بسيطٌ مثلي يُصدَم بشدةٍ حين يقرأ في "التايم" أن أكثر المتضررين في السوق العربية من تبعات الأزمة هي السوق المالية السعودية.. نهاب يوما تخرج به دمعاتنا، فلا نجد حتى من يقدم لنا منديلا ورقيا لمسحها!
 
وأرجو أن يُصغي الناسُ وقادةُ المال في البلادِ إلى ما حذر منه الدكتورُ عبد الرحمن محمد السلطان بمقاله في "الاقتصادية" 22 رمضان الجاري، بعنوان:"انعكاسات الأزمة المالية الأمريكية على اقتصادنا"، حين كتب:" أهم التأثيرات السلبية لهذه الأزمة على اقتصادنا، هو التراجع الكبير المتوقع في صرف الدولار.. وعلينا عدم الاغترار بصحوةِ الدولار الحالية فهي مؤقتة وتمشي في عكس مصلحة الاقتصاد الأمريكي وغير مبررة في ظل التدهور الشديد الذي يعانيه النظام المالي الأمريكي، ما يجعل إعادة تقييم الريال ثم ربطه بسلة عملات أشد إلحاحاً الآن من أي وقت مضى." إني أطلب من الله في هذا الرمضان ألا يقف أحدٌ ضد هذه الدعوة في مسألة الدولار والريال، خصوصا الآن والأعصاب متوجسة.. فما كان متحمَّلا في السابق لم يعد مناسبا طرحه الآن.. مهما كانت المكافأة!
 
.. وبقي شيء أخيرٌ: سمعنا وقرأنا عن بيوتاتٍ مالية خليجية تريد شراءَ بعض الأصول أو جزء من ملكيات بنوك كبرى خاسرة مثل ليمان براذرز و جولدمان و مورجان ستانلي.. طيب سؤال: هل هو شراء حقيقي بإرادة حقيقية، أو تعويض لقيمة أموال مودعة أو موظفة ضاعت أو معرضة للضياع؟ وسؤالٌ آخر: إن كان كهنة المال في الوول ستريت والحكومات الغربية والبنوك القارية الماموثية يقفون حائرين أمام الأزمة ويعتبرونها غامضة فكيف بنا نحن؟.. ليس انتقاصا، ولكن لأننا ما زلنا صندوقا.. وعندهم المفاتيح. وآخر: إن اشترتْ الأموالُ الخليجية تلك "الأشياء" من سيضعون خبراء عليها.. رجاءً لا تقل لي: ثيران الوول ستريت!
 
في أمان الله