مقتطفات الجمعة 31

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 31 ، أرجو أن تنال رضاكم.
 
اليوم أنتهز المساحة بإذنكم لتسجيل مشاعري لفقيدٍ فذٍّ نعرفه متفوقاً في علم الفلك والأرصاد، من أبناء هذه البلاد، من منطقتها الشرقية .. وهو الفلكي المعروف "جبر بن صالح بن جمعة الدوسري"، وفي المنطقةِ الشرقية له تقديرٌ ومحبةٌ كبيران، ومن كل من عرفه في البلادِ وخارجها، وقد توفي بعد معاناة من المرض لمدة لم يعرف فيها إلا أقرب الناس إليه عمقَ معاناتِهِ وعواقبَ مرضِه .. لم يكن يريد "قارئُ المناخ" كما سميناه، أن يحزننا بزوابعِ طقسِه .. بينما قضى عمراً يثرينا بمزاج الطقس الكوني .. رحمه الله.
 
ستستمرّ الشمسُ تشرقُ وتغيب. وسيتقلـَّب القمرُ في منازلِهِ، وستبقى العلاقةُ الأزليةُ الحركيةُ الكونيةُ بين أرضِنا وشمسِنا وقمرنا ونجومِنا .. وستتبادل الشمسُ والأرضُ المواقعَ لتتكوَّن الفصولُ كما بدأتا، وإلى أن يرثُ خالقُ الأكوانِ .. الأكوانَ. من كان ينقل لنا ذلك المشهدَ الأزلي، وتبادل المهامِّ الكونية، من كان يحكي لنا كيف تـُولـَدُ الأنواءُ، وتجري الرياحُ، وتتمطـَّى المحيطاتُ، ويتغير إيقاعُ النسيم والحرارةِ والظلِّ فوق رؤوسِنا، من كان المؤشـِّرُ الذي دلـّنا سنين لنتحسَّس حرارةَ هوائِنا المحيط ورطوبتـَهُ وتقلباتـَهُ ومزاجـَه.. مضى كما ترحلُ السـّدُمُ بالأكوانِ البعيدةِ، بلا صوتٍ يهزّ الوجود .. ولكنه الفراغُ العميقُ الصامتُ الحزين. هي لغةُ الحزنِ والوداعِ في أجرامِ السموات.. هيبةٌ، جلالٌ، فراغٌ، ذهولٌ.. وإيقاعُ الأبد.
 
ستسمر آلياتُ منازلِ الأبراج، وستـُثـْبتُ نجمةُ الشمالِ أنها قديمةٌ هناك، وستمرقُ الشهـُبُ تستر بحُجُبٍ صخريةٍ ناريةٍ غازيةٍ وجوهَ الكواكبِ المتعلقةِ بمحاور ضوئيةٍ وطاقاتٍ لانهائية، وستتساقط النيازكُ في مناظر الألعابِ النارية الكبرى من مليارات السنين.. ولكن الرجلَ الذي كان يصفُ ويفصـِّلُ لنا تلك الفوراتِ الكونية الأبدية .. مضى. بـَرَقَ كشهابٍ مضيء ثم غاص في ضميرِ الكون. أنار منطقة معارفِنا المناخيةِ كنـَيـْزَكٍ مُشِعٍّ ثم انصهرَ مع الخلود.
 
"جبر الدوسري" مفسـِّرُ المناخ السعودي الأشهر، والأبسط، والأكثر رواجا، الذي ثقـَّفـَنا بلغةِ الكون وطقسِهِ وأنوائِهِ وفصولِهِ وتقلباتِهِ وأمزِجَتِهِ أتمّ مهمتـَه كاملة لنا، ثم رحَل.. ولم يفجعنا بالفجاءةِ، تلوى مريضاً لزمنٍ بهدوءٍ وصبرٍ واحتساب.. أعطانا مهلة لفقدِهِ وافتقادِهِ، تبحث أعينـُنا عن حروفِه الكونيةِ فلا نجدها، نتطلع كي يخبرنا كيف تحدّثَ الكونُ فلا نجد ترجمتـَهُ الفوريّة.
 
خصوصا بالمنطقة الشرقية من البلاد كدنا لا نغيّر ملابسَنا، ولا نُشـْعِلُ مدافئـَنا، ولا نشغـِّل مبرداتنا، ولا نعلن الفصولَ إلا بانتظار الخبر يأتينا من فلكيِّنا الذي ارتكنـّا له زمنا.. فيقول الناسُ: قال جَبـْرٌ، وصرَّح جبرٌ، وكتبَ جبر.. فيعرف الناسُ كيف يسقبلون الغد. جبر الدوسري لم يكن فلكياً ممتهناً، ولا يشتغل في مرصـَدٍ مُعَدٍّ لفكِّ شفراتِ الأجواء.. لم يكن محترفا، إنما واحد من الهواةِ، ولكن من أعظم هواة الأرض.. والذي صنفته مجلة عالمية وهي تتكلم عمن سمّتهم "قارئو المناخ".. مع أسماء عربية كالبحريني يوسف الشيراوي، ضمن كوكبةٍ من نجوم الهواة العالميين الذين سُجـِّلَ أنّ المحترفين يرجعون لهم لعبقريتهم ومواهبهم ولارتباطهم العميق العاطفي والروحي بالطقس وهو يتواصل معهم، مع الأجرام وهي ترسل لهم بكسوفِها، بخسوفِها، برجومِها، بمدِّها، بجزرها، بطاقاتِها، بضوئِها، بمسافاتِها إشاراتَ التواصلِ والاتصالِ فيسبَحون في ملكوتٍ بلا ضفاف، ولا مَصَابٍّ ولا منابع.. ابتداءٌ من غيرِ حدّ، وانتهاءٌ بلا عدّ ثم يعودون ويخبروننا بلغتِنا المألوفةِ ما الذي أسرّ لهم الكون.
 
مرّةً كتب "هيرودوت" المؤرخُ الأولُ للذاكرةِ البشرية عن قصص قارئي المناخ في الحضاراتِ المصريةِ واليونانيةِ والفارسيةِ وما بين النهرين، وكشف أنهم يكادون أن يكونوا بشراً بوصفٍ متطابقٍ مهما اختلفت حضاراتهم وجغرافياتهم. وبالفعل كان الفقيدُ جبر الدوسري واحداً من شعبِ قارئي المناخ الهواة الكبار العالميين، الذين لا يجمعهم مالٌ، أو احتفالٌ، أو مؤتمرٌ فارِهٌ في فنادقَ وصالاتٍ ومراكز فاخرة.. ولكنهم يجتمعون عندما تقرّرُ الشمسُ أن تحتجب، أو القمرُ أن يطلّ بخفاء، أو يمر شهابٌ لا يمرّ إلا مرة كل مدّةٍ محسوبةٍ من الزمنِ بدقـَّةِ الساعةِ الفلكيةِ العظمى، فيتجمعون فوق جبال الهند، أو الإنديز، أو صحارى كلهاري.. إنهم بوعيهم الدافع عناصرَ من عناصر الكون يتآلفونَ معاً، ويتبادلون الطاقةَ والضوءَ معاً، والكونُ يُفـْصِحُ لهم عن ذخائرِهِ وجمالاتِهِ، وبهائِهِ، وجبروتِهِ.. وديمومتِه. إلا أنـّهم لا يُستدَامون، يضيئون، ويستضيئون، ثم بعيدا ينطفئون. ولكنهم في انطفاءاتِهِم يبقون في قلوبِ من أحبّوهم، من تعلـّم منهم، من تعلـّق بهم.. يبقون كالأنجم أضواءً بعد انطفاء.
 
ولقد أحببناكَ يا جبر، ولقد تعلمنا منك يا جبر، وقرّّبتنا لأجرام اللهِ ووظائِفها.. قرّبتنا للهِ، فقرّبكَ اللهُ، بإذنهِ تعالى، ليرحمكَ ويغمركَ برضاه. عالمُنا مادةٌ وطاقةٌ وضوء، كلّ ما يدور على الأرض وفيها وحولها مُسَاقٌ بالطاقة.. فاستمدها جبرُ الدوسري ليمدّنا.. ذهبت مادّةُ قارئ المناخ جبر الدوسري، فأُغلق الكتابُ. وستبقى طاقتـُه تنيرُ عقولـَنا، وقلوبـَنا.. وتـُجَفـِّفُ دموعَنا.
 
وفي السَّمَاءِ نجومٌ لا عدادَ لها وليس يكـْسـُفُ إلاّ الشمسُ والقمرُ