سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 30 ، أرجو أن تنال رضاكم.
انتقلت إلى رحمةِ الله الأميرة هيا بنت سعود بن عبد العزيز، وقد طهّرها إن شاء الله المرضُ الطويلُ والمُضني. ونسأل اللهَ لها الرحمة والمغفرة، وأن يسكنها في رياض الخلد، وأن يلهم إشقاءَها الأفاضل، وشقيقاتها الفضليَات، وجميع أسرتها، والأسرة المالكة، الصبرَ والسلوان.
كما انتقلتْ إلى رحمةِ المولى السيدة الرؤوم مزنة بنت محمد العطيشان، والدة حبيبنا وصديقنا الأغرّ تركي بن عبد الله الدخيل مقدم برامج "إضاءات" برنامجُ الحوارِ الأشهرِ على مستوى العالم العربي. وقد كابدتْ الفقيدةُ العزيزةُ المرضَ لمدةٍ طالتْ غُسِلـَتْ بها أعمالـُها إن شاءَ الله بالمجاهدةِ والاحتسابِ والمصابرةِ والإيمان. اللهُمّ أنزلْ على قلوبِ زوجها وأهلِها وأبنائها وآل الدخيل كافة الطمأنينةَ والسكينة والقبولَ بما قضيتَ يا مُنشِئ الأرواح ومستردها. وأرحم والدِينا أجمعين.. آمين.
قضية الأسبوع: هو هذا الرعبُ العالمي الذي خيّم على الدنيا كسحابةٍ سوداء، وطالت هذه السحابة آخر ركن في الأرض: انهيارُ نظام المال العالمي. لم يبقَ كاتبٌ في العالم - أظن - لم يتناول هذه الزلزلةِ التي تعمّقـَت في كل أرضيةِ اقتصادٍ بالأرض. وما أشبه الكوارث بنفسها.. دائما هناك ذات السبب في النهاية، وهو الجشع، أي تصريف المال في غير أوجهـِهِ الإنتاجية والتحايل السَندي عليه، وكراسي الموسيقى في فوائدِه الأولى والمركبة.. ثم إذا هو مستنقعٌ ربَويٌ شاسع، كل من تحرّك فيه يريد الخلاصَ.. غرقَ أكثر.
في الكوارث الأخيرة كان العقارُ هو المحرك الأول للعمليات الإقراضية، وهو المعولُ الأخير الذي هوى على رأس المصارف محطـّماً أصنامها الرخامية لصقيلة من الخارج، المليئة بالفراغ من الداخل.. (لا تحسبنّ الشحمَ في من شحمُهُ ورَمُ). في التسعينيات بلغـَتْ أسعارُ العقارِ في اليابان أرقاماً خيالية، ونشِط الإقراضُ البنكي لشركات ومُلاك العقار كمريضٍ مُصابٍ بفرطِ النشاطِ الحرَكي، وارتفعت أسعارُ العقار بأثمانٍ فوق التصور.. ثم انتفخت، وانتفخت على شكل فقاعة، ثم انتفخت.. ثم انفجرت.. إلى يومِنا هذا لم تتعافَ تماما أكبرُ بنوكِ الأرض (وهي البنوك اليابانية) من أثر السلخ من اللحم الحي بشطبِ الديون المعدومة، ثم الرديئة، ثم المشكوك فيها.. ثم آثار جروح عميقة غائرة على وجهِ الاقتصاد الياباني.
أتذكرون يوم صرخ مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق: "لقد نهَبَنا جورج سوروس" وسورس كما تعرفون أكبر مضاربٍ في تاريخ كل البورصات، وهو أمريكي يهودي.. وفيه اتهامٌ صريح. ولم يكن اللوم كله على سوروس، فسورس من وحوش المال ينقض على الفريسةِ متى انكشفت أمامه في العراء، وهذا ما حدث.. والعقارُ كان هو الذي أرسل طريدة مسلوبة عاجزة أمام الوحوش المتوثبة. كان ذلك في 1997م "عامُ بورصاتِ شرق آسيا الأسود"، بعد أن رفـَلـَتْ دُوَلـُهُ بسنواتِ ازدهارٍ ضربت عنانَ السماءِ حتى سمّاها العالمُ "نمور آسيا". وقتها ضرب إعصارٌ تسوناميّ خطيرٌ اقتصاداتِ النمور، فانهارت أسواقُ المال، وأفلستْ الكياناتُ الاقتصاديةِ الكبرى.. فصرخ مهاتير متهما سوروس. أما سببُ إطلاق الإعصار من قمقمهِ فقد كان هناك وحشٌ آخر يجوس داخل غابةِ النمور، من داخلهم، وبدأ يفترسهم أوّلاً بأول.. ألا وهو توحّش الجشـَع. والجشعُ هو سرّ وروحُ ودمُ الرأسمالية.. كل العالم كان يعرف ذلك، ولكنهم الآن اكتووا حِسِيا بنار التعرف عليه. ومعنى التوحش المالي هو الإقراض الذي لا يقابله إنتاجٌ سلعي أو خدَمي، فالبنوكُ لجأت للإقراض العقاري مثل من ضربه السُعار، ثم قامت مؤسسات بطرح سندات القروض في البورصة، واستفادت المؤسساتُ وتعاظمت أرباحُها، فتشجعت مؤسساتٌ أخرى للدخول في معمعةِ المضاربة، وهنا انكشفت الطرائدُ أمام غول البورصاتِ "سوروس" فأكل الوليمة المكشوفة.. وخرَج.
من الأشياء التي لا بد من دراستِها وتحليلها هي الدوراتُ المالية الشرسة، التي ترتبط ببعضها فتجرها بدائرها ثم لا تدري من أين البداية والنهاية، أو أن النهاية هي البداية. العقارُ نشط جدا - وبشكلٍ لو تأملنا بواقعية - يفوق الرتم العادي، بل أنه باطـِّرادٍ محموم، والأسعارُ تتقافز في شهور.. في الرياض وفي البحرين ودبي.. والفقاعة الآن تملأ نفسَها بالهواء.. فمن يسبق النافخُ أم المنفوخ؟ إن توقف النافخُ قد يرى البعض إنه انكماش في السوق، وفي الحقيقة التاريخية الاقتصادية هو انكماش في الورَم. وإن سبق المنفوخُ، فسيستمر بالانتفاخ حتى الانفجار. مشهدٌ معاد!
في مصر سجلت سوقُ المال أكبرَ انخفاضٍ في تاريخ أسواق المال في يوم واحد، بل في ربع صباح.. يوم الإثنين الفائت خسرت السوق المصرية مرة واحدة 16.4 في المائة، ثم 8 في المائة في اليوم التالي، بمجموع خسارة صافية تقارب 25 في المائة، إنه غوْصُ رأسيٌ يأسي، ولم تكن أحوال السوق الكبرى السعودية بنعيم بل بأطرافِ الشقاءِ بخسارة 8.6 في المائة والكويتية وسوق دبي.. كله من تأثير الخسف الأمريكي المالي. وهذا يعني انسحاب شديد للسيولة.. ونخاف من الفشل المؤقت في أداء البنوك عامة، مثل من يتوقف عن شربِ الماء لفترة فيجف جسدَه ويصاب بفشل كلوي مؤقت.. ويمكن إغاثة المريض بالسوائل والأملاح لتعاود الكِليةُ نشاطـَها. والمهم الآن ألا يتحول الفشلُ الوقتي إلى فشلٍ مزمن.. حيثُ لا علاج!
وبما أني أدعي أن الإقراض العقاري خطير وقد يوصلنا لأزمة - ندعو الله ألا نكون قد وصلناها، فلا شيء رسمي يؤكد أنا أصبنا بضربةٍ قويةٍ حتى الآن. بينما الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الخضيري طالب بإيقاف تعاملات سوق المال السعودي مؤقتا، وهذا رأيٌ حصيف وعاقل وحكيم، ولم يُعـْمَل به.. طبعا. فالخضيري لم يدّعِ تحليلا وفلسفة وفهما ولكنه بصراحةٍ قال إنه لا يعلم، والحقيقة أن الجميع لا يعلم.. وبالتالي لا بد من وقفة التقاط أنفاس وتأمل.. قبل أن تكون ردودُ أفعالِنا مثل من يلاطمُ الماءَ وهو في طريقِهِ للقاع!
في أمان الله..