مقتطفات الجمعة 28

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 28 ، أرجو أن تنال رضاكم.
 
قضية الأسبوع: متلازمة اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه: المتلازمة التي تصيبُ أطفالـَنا، وتجعلهم يتواصلون مع معطيات الحياة بطريقةٍ مختلفةٍ عن نظرائهم من الأطفال، إنهم أولئك الأطفالُ الذين قد تكون بهم الحالة ولا نعلم، لجهلنا بها. الأطفالُ موفورو النشاط، متفجرو الطاقة، ومن الصعب حثهم على التركيز في الظروفِ العادية، علينا أن نلاحظ الأطفالَ الذين يتكلمون حين يصمت الناس، ويتقافزون بحماسةٍ بإصرارٍ متواصل، والذين يخفقون في المدارس، الذين يميلون للتعلق الزائد بأقرب الناس لهم، الأطفالُ الذين يجوعون للتشجيع وتوقير الذات، الأطفالُ الذين يريدون أن يكونوا دوماً من ينقذ اليومَ في اللحظة الأخيرة، الذين لا ينسون الإساءة مهما طال الزمن، ويميلون بعنادٍ للثأر،الذين هم في يقظةٍ مذهولة بعيدا عما حولهم، وكأن في داخلهم عالما آخر.. هؤلاء أطفال يعيشون بيننا، ولا ننتبه إلا أنهم أطفال حرِكون أو مشاغبون، أو كسولو الذهن.. ونمضي بأيامنا عادية، بينما تمرّ عليهم اللحظاتُ والساعاتُ والأيامُ والسنون فتصوغهم وتقود سلوكهم، وتدفعهم إلى الإدمان، وجُنـَح الأطفال.. والإجرام.
 
بينما بمقدورهم أن يكونوا من عظماءِ المجتمع، وحتى من عظماء الأرض، مثل أينشتاين، وجين أوستن، ومي زيادة.. وكثيرين. الآن على المجتمع أن ينتبه لذلك جدّيا، بل مصيريا، فالمسألة ليست فقط هَمـّاً جماعياً، بل همٌ فردي، وبنسبة كما تقول الدكتورة "سعاد يماني" إنها تتجاوز الـ 15 في المائة مِمَن يعانون من أطفالنا من الحالة، فلا بد أن طفلا منهم يعيش بيننا أو في الجوار. حان الوقتُ، وبلا تأجيل، أن يُطرح كقضيةٍ رئيسةٍ في استراتيجيتنا الصحية.
 
وهذا يجعلنا نتأمل بالدماغ العجيب، هذا العضو الإسفنجي الذي لا يزيد على ثلاثة أرطال، والذي يصوغ كينونتنا، ويحدد شخصياتنا، ويلون أمزجتنا، ويقود حالاتنا النفسية والفكرية والعاطفية والحركية والعصبية.. هذه الغامضُ الذي كشفنا عن قليل جدا من روائعه كما يُخدَش سطحُ صخرةٍ صغيرةٍ من جبل ماردٍ خفي. هل الدماغُ يعيش صراعاً مع نفسه؟ ثم هذه التوزيعات الكهربائية الكيميائية الكهربية المتخصصة بالمنطق، والوجدان، والعقل، والعلم، والفن،والإبداع، والحكمة، والتوازن، هل يقرر أحدها فجأة القفز لقمرة القيادة ليقود المركبة بطريقته وأوامره فإذا نحن أشخاص مختلفون عن السواد.. ربما هذا ما يصير، بتعقيدات مركبة من العمليات والمعادلات والمعالجات والشحنات الكهربائية والدفقات الكيميائية.. هذا الدماغ من منطقة معتمة تأتي حالة طيفية تبدأ بتشتت الانتباه إلى فرط الحركة .. لذا فالمرضُ يتسم بضبابيةِ الإفصاح وتشخيصه يحتاج إلى فريق متعاون من متخصصي الأعصاب، والطبّ النفسي، واالنفسانيين، والخبراء في المعالجاتِ الحركية والسلوكية.. وهو التجهيز التحتي الذي نحن الآن بأشد الحاجة إليه في كل مناطق البلاد. حتى لا يكون أطفالـُنا ضحايا.. ونحن.
 
يصر الأمير محمد بن نواف بن عبد العزيز، سفيرنا في العاصمة البريطانية، في مداخلةٍ ثريةٍ ووجدانية في المؤتمر الذي أقيم في الرياض أخيرا حول الحالة، وكان المتحدثون الدكتورة يماني والدكتور بدر بن أحمد كريـّم الإعلامي الرائد وأنا، بأن على الناس جميعا أن يتفاتحوا حول الحالة، وأن يُشجَّع الأهالي بالتقدم وإدلاءِ كامل المعلومات عن حالات أبنائهم وبناتهم، وهذا رأي وجيه جداً ونافع، ويحتاج إذن إلى حملاتٍ من التوعية المكثفة عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، نحتاج إلى مقالاتٍ دورية من كُتـّاب لديهم ذخيرة تأسيسية صحيحة عن الحالة مقدمة من جهات الاختصاص، ونحتاج إلى أفلام درامية عن الحالة، وأسبوع توعوي سنوي، والأهم عمل متواصل من العمل على الأرض، بلا كلل ولا ملل.. كما تفعل الدكتورة سعاد يماني رئيسة مجموعة دعم اضطراب الحركة وتشتت الانتباه.. التي يتأجج بكيانها بركانٌ داخليٌ يغلي في إهابها القليل، ومولـِّد يمورُ، ما شاء الله، كقاطرةٍ تجر عربات العمل. ولإصرارها، علـَّقتُ مداعبا: "يا دكتورة يبدو وكأن لديك فرط الحركة.."، ولم تأخذها قط كتعليق طريف.. فتابعت بمنتهى جديتها وحماستها المعهودتين، وبلهجةٍ حجازيةٍ منقوعةٍ وعميقة:" إيوا.. لأنه، واللهِ، قلبي بيحرقني على دول الأطفال!"
 
لما طلب مني الأستاذ خلف ملفي أن أقدم كلمة في المؤتمر، قـُدِّمَت لي من صديق، كانت عنده الحالة، قائمة بأسماء أشخاص ناجحين ومشهورين في دول الخليج وعندنا، ذهبت وقابلتهم جميعا، وكانوا معي في منتهى الأريحية بالشرح عن تجاربهم أثناء الحالة ( وهم صغار، فمعظمهم تعداها) بينهم الجراحون، والكتاب النابهون، والمسؤولون الكبار، ورجال الأعمال المحلّقون، والمنتمون للفن.. أذهلوني، أعادوا نظرتي كاملة للعالم، خرجت برؤى جديدة، وأكاد أقول بشخصيةٍ جديدة.. هم نجحوا لأن من طبيعة حاملي الحالة التركيز على ما يحبون ويهوون للنهاية.. وتوصلت مقتنعاً أن هذه الحالة قد تكون نقمة، ولكنه من السهل أن تكون.. نعمة.
 
وبمناسبةِ العمل على الأرض، لاحظت أن المنطقة الشرقية خالية من أي مركزٍ للدعم، أو فرع لجمعية مع أني كتبت مقالا عنه في جريدة "اليوم" ووصلني عشرات الردود، كلهم لديهم حالات في بيوتهم، وهالـَني العدد، وخابرني أصدقاء، وزملاء، لديهم أطفال يعانون من الحالة. تقول الدكتورة يماني: "طالبتُ ولم يستجب أحدٌ في الشرقية"، وشعرتُ بالإحباطِ والخجل.. وأسعى الآن بالتعاون مع الدكتورة يماني لتأسيس فرع لمجموعة الدعم.. وأتوقع ألا يبخل علينا القادرون في الشرقية بمدّ أيادي العون.
 
في أمان الله..