مقتطفات الجمعة 26
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
أهلاً بكم في مقتطفات الجمعة رقم 26 ، أرجو أن تنال رضاكم.
موضوعُ الأسبوع: عوداً حميداً يا أمريكا: من تصفـّح صبح انتخاباتِ الرئاسةِ الأمريكية عناوينَ الصحفِ العالمية، سيجد أنه، ذاك اليوم، كان "باراك حسين أوباما" يحتل عناوينَ الصفحاتِ الرئيسةِ في صحفِ الأرض. أوباما أعاد لأمريكا معناها الجوهري كبلادٍ تتيحُ الفُرَصَ للجميع، بعد أن ارتهنت طويلا لجماعاتٍ مصلحيةٍ، وعنصريةٍ، وسياسيةٍ، ومجموعاتِ ضغطٍ جبروتية.. خرجت "النيويورك تايمز" بهذا الوصف الذي سبق اسم الرئيس الجديد المُنتَخَب:" أمريكيٌ باسم باراك حسين أوباما، الابنُ من أمٍ أمريكيةٍ بيضاء، ورجلٍ كيني أسود بالكاد يعرفه، الذي نشأ تحت كنف جدته، والبعيد كثيرا عن تيار القوة والثروة الأمريكيتين، تم انتخابه الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية". كل صحيفةٍ تفنـَّنتْ في التعبير عن المناسبة المفصلية التاريخية، حتى إن أكبر الصحف اللندنية كتبت في صفحتها الأولى: "أمريكا عادت!"، أي عادت لدستورِها وفلسفتها ومغزاها الأول كبلدِ الحريةِ وتساوي الفرص..
هل يمكننا الإعجاب بأمريكا؟ ليس نحن فقط كرهنا أمريكا بل كل العالم – بلا مبالغة- وتأجّج هذا الكُرهُ في عصر المحافظين الجدد الحاليين في البيت الأبيض، ولكن هل "هُم" أمريكا؟ حاول مفكرُنا الدكتور "خالص جلبي" على ثلاث حلقاتٍ في مقالات بعنوان " الدفاع عن أمريكا" أن يوضح اللَّبْسَ ويزيل دواعي الجدل، بأن يضع أمام قرائِهِ فلسفة الأمةِ الأمريكية وروحها الدستورية، والعلمية، والاقتصادية، ودورها الكوني الهائل، وفرق بين سياستها الضيقة، والتحيزية، وفساد المجتمع السياسي بواشنطن، ومع أن جمْعاً من قرائه انتقدوا الرأيَ، ليس لأن الدكتور جلبي لم يكن واضحاً أو مبرهِناً، ولكن لأننا نملك هذه الحساسية الأولية ضد أمريكا وسياساتها التحيزية ضدنا.. فوقفت هذه الحساسيةُ كالضباب لفهم مراده. الحقيقة، أن الدستورَ الأمريكي من أهم ما ظهر في الدساتير الغربية في مسألةِ الحرية، وعادَلَ بقضيةٍ حار فيها الفلاسفةُ من أزمانٍ في التوفيق بين الحريةِ الفرديةِ والتنظيم الرسمي (الدولة)، من أيام أفلاطون حتى مونتسكيو وروسّو وفولتير، وجون استوارت مِل، وآدم سميث، وجرمي بانثام، إلى فلاسفة ما بعد الدستور الأمريكي مثل برتراند رسل. أولُ كلمةٍ في الدستور الأمريكي: "نحن شعب أمريكا". وما حكمت دولة مثل أمريكا عن طريق الشعبِ من خلال أفضل تنظيم ديمقراطي انتخابي. وفي مسألةِ أوباما.. الشعبُ هو الذي قال كلمته..
توقع كثيرٌ من الناس فوزَ "ماكين" الأبيض، الثري، بطل الحرب، الشهم، ووصوفات أُغـْدِقـَت عليه، ربما استحق أكثرها، ودعمته كل القوى المؤسسية الكارتلية تقريباً، من البيت الأبيض (بطبيعة الحال) إلى الشركات الأخطبوطية، في دولة أغلبيتها من البيض، وهم أهل الثراءِ والقوةِ والتقنية، ولكن حملة أوباما تسجل أعلى ميزانيةِ حملةٍ انتخابيةٍ منذ بدءِ حملات الرئاسةِ ألأمريكية إلى اليوم، كلها جُمِعَتْ بنساً بِنساً، ودولاراً دولاراً، من الناس العاديين، من الجماعات المُهمـَلة، ومن الذين لم يذهبوا يوما ليدلوا بأصواتهم، لأن أي رئيس قادم لن يغير ظروفهم، لذا فهم لا يأبهون. حرّك أوباما الفردَ الأمريكي، وهو قطرةٌ في بحرِ الشعبِ، فماجَ البحرُ وهاج.. وسجل أكبر انتصارٍ له، ولروح الدستور، ولأهميةِ الفرد الأمريكي.. وسقطت آخرُ حواجز العنصريةِ في أمريكا، وحواجز أُثـْرة السلطة، وسيطرة القوة المصلحية الضاغطة.. أمريكا صدّرتْ الجينز والهامبرجر والوندوز لكل الدنيا، فلعلها تصدر هذه المعاني، بجوهرها الحقيقي، لبقية دول العالم.
هل سينفع أوباما قضايا العرب، وأولاها فلسطين؟ أوباما لم يبدِ أيَّ تعاطف مع العرب على الإطلاق، بل (ربما تحت نفاقٍ مصلحي)، كال المديحَ للدولةِ العبريةِ، تعدى المدحَ والالتزام اللذَيْن تعودنا سماعهما من كل مرشح للرئاسة الأمريكية، وقدم العهودَ والنذرَ والمواثيقَ للتحالف مع إسرائيل ودون تحفظ. ولا نؤمن أن لديه أجندة أخرى بعد أن يتساوى على سِدّةِ الرئاسة، حتى لو في أعماق قلبه كان هناك تعاطف مع العرب أو المسلمين، فإني أشك أن يظهره على الأقل في الفترة الأولى، متطلعا للفوز بالفترة الثانية.. وسببُ الراحة النفسية التي عمّت العربَ والعالمَ الثالث وحتى العالم المتقدم لفوزه، لأنه انتصارٌ على "أوجاع تاريخ" حركة السود (وهو تعبيرٌ ورَد في كلمة اليوم في جريدة اليوم السعودية هذا الخميس.) وأملٌ جميلٌ كاد أن يصير طوباويا، وتغييرٌ يلوّن المللَ والاحتكارَ السياسي الذي اعتاده العالم. وأجد أن أقرب ما ستستفيد منه القضية العربية هو ما وعد به ناخبيه بسحب الجيش الأمريكي من العراق، وهذا أمرٌ جيدٌ، كثيرون يقفون ضدّ هذا الرأي، مبررين أن انسحاب أمريكا سيترك فراغاً يخلق الفوضى.. وأرى أنه تحدٍّ سيأخذه العراقيون كمسألة حياةٍ أو موت.
أنقل شعوري بالتضامن والمواساة لصديقنا العربي الأمريكي وزميلنا هنا الدكتور "أنس الحجي"، الذي كان يرى أن الجمهوريين أفضل، وبالذات في المسألة الاقتصادية.. ونطمئنه أنني وقراء الزاوية لن نـَشي عنه عند باراك حسين أوباما!
و.. عند الوصول للقمة، لا يكون الوقتُ للراحة أو النزول، بل بدء المشقة الحقيقية للصعود!
في أمان الله