مقتطفات الجمعة 22

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

"واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".

دارت بذهني المكدود هذه الآية وأبي في مرضه الأخير، إن الله َوفـّر لنا مخارجَ ومراوحَ للنفس لا يُصدَّقُ أثرُها إلا عندما تكون في وسط إعصار الحزن، فتزور هذه الأنوار والكواشف روحك فتنشلك من عين الإعصار، ليأخذك شعور بأنك تطأ سهولاً من المخمل الأخضر الموشى بألوان الزهور. محظوظٌ وسعيدٌ ذلك المؤمنُ الذي عبد ربَّهُ عبادةً خالصة منقطعة متواصلة حتى أتاه اليقينُ.. الموت. ونبعت من مخيلتي صورة بلال رضي الله عنه ينازع بين أهله، وهم يبكون ويولولون :" واكرباه.. واكرباه"، وكان بلالٌ يرفع عينيه من سكرات الموت ويخاطبهم: "بل، واطرباه.. واطرباه. غداً نلقى الأحبة، محمدا وصحبه".

إن العبدَ الصالحَ يرحل إلى ربه سعيداً، وكان أبي يقول لما يفتح عينيه إنه يرى نفسه يسير مع والده في الجنة، وهذا من قبيل البشرى قبل الموت فيما أرجو وأدعو، فإن من كان من الصالحين يرى بعينه ما أعده اللهُ له، مكانه بعد الموت، فتتعلق نفسه بالموت وتفرح به وتزف نفسها في عرس السماء.. بينما الأهل محزونون، ولو علموا كانوا من المستبشرين. ولما سُئل عالِمٌ عن كيفية القدوم غدا على الله أجاب أن العبدَ المحسِن عندما يقدم إلى الله فيكون فرحا متهلـِّلا كالقادم على أهله بعد طول غياب". اللهم أنت الأعلم، فاحتسب والدي عبدا صالحا.. فقد كان يتوق إلى القدوم بعد طول غياب.

وإني بفضل ألله أولا، ثم إن شاء الله بالرضى الإلهي عن والدي، مغتبط بكرم مجتمعي مع والدتي وعماتي وأعمامي وأخواتي وأنا وإخواني.. فقد تلقيت مكالمة هاتفية مبكرة من سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز، الذي تعهد على نفسه بحمل هذه المحبة المضنية للناس فوق مسئولياته الرسمية الجسام، وسمعت منه لطف العزاء، وأفاض سمو الأمير فيصل بن سلمان في جميله علينا بعزاء شخصي وببادرة كريمة من سموه ومجلس إدارة الشركة ورئيس التحرير والزملاء بإفراد صفحة عزاء في هذه الجريدة السيارة.

وهاتفني ابنا الملك سعود الأميران نهار، وسيف الإسلام جزاهما الله خيرا، وكانتا مهاتفتين طويلتين، بما يقاس بمكالمات العزاء، فيهما من جمال الأشاعير ما يفرح القلب المكلوم ، وشملاني بلطفهما الغامر.. وصُلـِّي عليه صلاة الجمعة بمسجد غص بالمصلين، وزارنا للتعزية آلاف مؤلفة من الأحباب تقاطروا من أنحاء البلاد وخارجها، وساندنا أصحاب الفضيلة، ومسئولون كبار، وأصدقاء من الخليج ومن العالم العربي ومن الخارج. وتلقينا رسائل لا تحصى بالهاتف وبالبريد الإلكتروني وبالفاكس والبرق.. ولم تقف المكالمات خمسة أيام من انهمارها أكثر من 90 % منها أشخاص كرام لا يعرفوني إلا من خلال كتاباتي.. ووصلت رسائلٌ في غاية التأثير، وأكثر ما فيها من التأثير أنها تـُختـَم بعد الدعاء هكذا: من فاعل خير! لن أوفي هذا المجتمعَ حقـَّه، وأحمدُ ربي طويلا أنه خلقني معكم على هذا التراب.

وفي (الجزيرة) عدد الأربعاء 21 أبريل تحقيق يجب أن تستيقظ عليه عين المجتمع، قام به من مدينة عرعر الأستاذ "فهد الديدب" عن أن الفقر المدقع يقود أكثر من 700 شخص إلى السكن في بيوت من صفيح، وبلا تجهيزات الكهرباء والتبريد التي أصبحت أولى الضروريات في بيوتنا، واسمعه يقول:" كنت أتصور أن السكنى في تلك المناطق ليست بهذه القسوة والألم.. لم أتخيلهم يتجرعون الألم ليلَ نهار.. تصورتهم أناسا فقراء وحسب، ووجدتهم ( لا يسألونَ الناسَ إلحافا) فهم من العزة ما يمنعهم من السؤال، بعد أن ضاقت بهم الدنيا بما رحبت". هل سمعت جيدا يا أخي؟ ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت!. "فهد الديدب" لم نسمع عنه أديبا يصوغ الكلمات، ولكن لأن كلماته تخرج من نبضات قلبه، جاءت بهذا التأثير الجليل، والوصف المذيب لأصلد النفوس، ومن أجمل ميلودراما التعبير. فالذي رآه فتـّقَ نهرَ إنسانيته فسال عطفاً وعاطفة ًوجمالا.

إن تقريرَ "فهد الديدب" يجب أن يعلق في كل وزارة مهمة، وفي كل جمعية إنسانية مهمة، وفي مجالس البلاد المهمة كالمجلس الاقتصادي الأعلى، ومجلس الشورى. لا يكفي أن نعطي المحتاجين يوما ثم ننساهم دهرا.. لا يكفي أن نعسف السعودة عسفا، يجب أن نعلمهم صنعة حقيقية ومنتجة بأياديهم، ولا يتأتى ذلك إلا بالتدريب الجاد.. سنة، سنتين، عشرا.. فليكن، ولكن يجب أن نستأصل هذا الجرح من أقصى مكامنه.الله لا يريك ضائقة يوما في حياتك يا أخي فهد.

ماذا عن كل الأدوية التي يصفها لنا الأطباء؟ هل يراعون فيها فقط صحتنا، أم أنهم يختلسون النظر أيضا إلى جيوبنا، ليمرروا أدوية بعينها مهما غلا ثمنها (مع وجود المثيل بثمن أقل كثيرا) وذلك من دوافع مادية بحتة؟ وأكثرها وضوحا هذا الدلال الذي تبذله شركات الأدوية على الأطباء بدعوات المؤتمرات، والندوات الفارهة، ونحن هنا فقط نتساءل، فلا وجود حقيقيا لدينا لجمعية تحمي مستهلك الدواء.

ويشتكون في أمريكا والتي هي أم هذا النوع من هيئات الحماية، ففي مقال للكاتب "بيل ماهر Bill Maher" في جريدة لوس أنجلوس تايمز بعنوان: "أمة طلقات الوصفات" الدوائية Pill popper nationيحذر فيها بأن بعض الأدوية أخطر من المخدرات الممنوعة وأن وكالة الغذاء والدواء الأمريكية بينما تفتح كل عيونها على منع المخدرات ترحب بانحناءة محترمة لأدوية تعلن في التلفزيون والصحف ويكتبها الأطباء تحوي من القدرة التخديرية ما يوازي المخدرات إسهاما مباشرا في تشجيع تجارة الدواء، ويمضي غاضبا متهكما بادعائه فهو يشبه شركات الأدوية بمروجي المخدرات Pushers" وأن الكونجرس، ووكالة الدواء هما مثل الشرطي المرتشي الذي يراقب الطريق حتى تسري البضائع المخدرة بأمان.. ويوجه إصبع اتهامٍ مباشرٍ مغروسا في صدور الأطباء الذين لهفت عقولهم شركات الأدوية".. وإني أرجو من الله أن يكون أطباؤنا من لحمٍ غير قابلٍ للمضغ تحت أنياب ضواري مصنعي الأدوية! 

حكمة الجمعة: خـَـفِ الله وارجوه لـكـــلِّ عظيــمــةٍ ولا تُطعْ النفسَ اللجوجَ فتنـدمـا وكن بين هاتين من الخوفِ والرَّجا وابشرْ بعفوِ اللهِ إن كنتَ مسلما