مقتطفات الجمعة 15

سنة النشر : 06/03/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلاً بكم في مقتطفاتِ الجمعة رقم 15 ، أرجو أن تنال رضاكم.
 
في الأيام القليلة السابقة ابتدأت فعالياتُ معرض الكتاب في الرياض، فنُكرِّس إذن المقتطفات اليوم للكتب وقضايا الكتاب.. وأهمهما الرقابة والفسح.
 
موضوعُ الأسبوع: الكتابُ والرقابة. لم تخل دولةٌ من بدء تاريخ الكتاب من الرقابة أو الوصاية عليه.. أبداً. ولقد كان الكتابُ سلاحاً خطيراُ بالفعل، يحرِّك شعوباً ويغيرُ حال أمَمٍ، فمن العوامل الكبرى التي رسمت، أو أعادتْ رسمَ مسارَ الشعوب والأمم الأفكارُ التي كانت في متون الكتب. لقد حرّكتْ الثورةَ الفرنسيةَ الكتـُبُ، ومن قبل تمخضّتْ أفكارٌ في وقتٍ كان الكتابُ بطيئاً فيه منسوخاً عن "الماجنا كارتا" بذرة الشجرة اللبلابية الديمقراطية التي توزعت جذورها تحت أراضي دول كثيرة، وانتشرت أفنانها فوق أراضي دولٍ كثيرة.. وكانت الاشتراكيةُ الأممية من وراءِ كتاب، وكان الرايخُ الثالث وهتلر من وراء كتاب، وكانت الرأسمالية من وراء كتاب، والوجودية، والحركة العلمية والرومانسية والعبثية، كلها، من وراء كتب. وسالتْ على جوانب الكتبِ مع الأفكارِ الدماءُ، ومعها في بوتقةٍ واحدةٍ الانبعاثُ للنماء. وإني أجد من يعتقد أن الرقابة قلـّتْ في بلادنا، وأجد من يرى أن الفسح زاد في بلادنا، ومن يرى أن الظروفَ التقنية الجديدة تحكمّت بذا وبذاك. ولا شك أن الرقابة لم تمُتْ، ومازالت الصحفُ تمارس رقابتها التي تسميها أحيانا ذاتية، وأحياناً إملائية .. ولكن تبقى أسئلة: هل الرقابة مطلوبة أم مدفوعة؟ هل الرقابة إن كانت مطلوبة أو مدفوعة، تفيد أو لا تفيد؟ على أن هذا مبحثٌ آخر، قد يأتي وقته.
 
ويظنُ البعضُ أن الرقابة والمنعَ للكتابِ بضاعة عربية أو بضاعة العالم الثالث، فلا يعلمون أن الرقابة حاصلة في العصر الحديث ومن دولٍ هي أمهات الحريات في الدنيا، ونخصّص الفقراتِ التالية لإعطاءِ الأمثلة..
 
من لم يقرأ رواية "إرنست همنجواي" العظمي،" وداعاً للسلاح A farewell to Arms"، فلا شك أنه سمع عنها، وهي تدور عن الجندي "هنري" وحبه "لكاثرين" التي التقى بها أيام الحرب الكونية في مخيم طبيٍّ على الحدود الإيطالية وهو جريح.. ومعاناتهما معاً لمّا غزتْ جيوشُ ألمانيا إيطاليا. وبعد ظهور القصة في نهاية عام 1929م، أحدثت صخَباً كبيراً، فمُنِعتْ تماماً في مدنٍ أمريكية، ومعظم مدارس ومعاهد وجامعات أمريكا لإيحاءاتٍ قيل إنها مبتذلة أخلاقيا. وإيطاليا منعت دخول الكتاب لتصويره انسحاب الجيش الإيطالي من "كابوراتو" الإيطالية أمام الألمان. وفي عام 1933م حرق النازيّون كل نسخةٍ من الكتاب عُثِر عليها، ومُنِعت تحريماً للدخول للأراضي الألمانية. كما مُنِعتْ تماما من دخول أيرلندا لأسبابٍ تتعلق بالحياء العام. والآن من لا يعرف هذه الرواية؟! لقد ساهم منعُها في انتشارها كالنارِ في الحطبِ اليابس.
 
ورواية "عالمٌ جديدٌ شجاع Brave New World لِـ "ألدوس هكسلي"، من أشهر روايات القرن العشرين، عن الخطيبَيْن "برنارد" و"لينين"، للذين دخلا مجتمعاً بدائياً وعادا للحضارة مع واحد من هؤلاء البدائيين. والمفارقة أن هذين المتحَضرَّيْن يعيشان في عالم مستقبليٍّ يطفح بالطبقيةِ، والجنس المفتوح، وانتهاءِ الأسرة، وانقراض التعبير عن الذات، والغرق في المخدرات.. وعن دور ذاك البدائي مع المجتمع الجديد. وهذا الكتابُ بالذات مُنع أو مُنعت نصوصُه فسُجِّلَ كأكبر كتاب بكامله أو بنصوص من نصوصه يلاقى حظراُ في كل تاريخ الغرب في التعامل مع الكتب، مُنِع في أيرلندا في عام نشره 1932م، وفي كامل مدارس بريطانيا وإيطاليا وفي فرنسا وفي النمسا، لترويجه للإلحاد والفساد الفاضح.. ثم عصفتْ شهرتـُه كريحٍ استوائية.
 
ومن أهم القصص في الأدبِ الأمريكي الأسود رواية "الصيادُ في حقل القمح"، (ولعلي أتعرض يوماً للحركةِ الثقافية السوداء في أمريكا)، وهي القصة التي ضربت العصبَ الأمريكي، فصرخ كل الجسد الاجتماعي والأكاديمي برفضِها، وهي تحكي عن يافعٍ أسود اسمه "هولدن" يموت أخوه، فينحرف للجريمة والسقوط البشري بأنواعه.. ومُنع الكتابُ في أمريكا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، لعدة أسبابٍ منها أخلاقية، ومنها فضائحية، أما أغرب تبريرٍ للمنع، فهو أن الكتابَ يروِّجُ للعنصريةِ ضد.. البيض! ولكن الكتاب بيعت منه عشرات ملايين النسخ، وتـُرجم إلى كلِّ اللغاتِ الحيّة، ثم رُشحت الروايةُ لتكون من أهم مائة روايةٍ في التاريخ.
 
ومن لم يقرأ أو يسمع برواية "عناقيد الغضب" Grapes f Wrath للقاص الشهير "جون ستاينبك"، ونشرت في عام 1939م عن قاتلٍ اسمه "توم جود" تم إطلاق سراحه، وملحمة هجرته وعائلته من أوكلاهوما لتجربة حياةٍ أفضل في كاليفورنيا، ولكنه هناك، ليعيش مع عائلته، عمِلَ مع الإقطاعيين لفكِّ إضرابِ العمال المتكرِّر، مما اضطره إلى أن يقتل أحدهم، فيلاقي "توم" المصيرَ الذي هرب منه. تمّتْ مقاطعة الكتابِ في كل ولايات أمريكا الغربية والجنوبية ومعظم معاهدها ومدارسها، ومنع محرَّما في أيرلندا، وإيطاليا، وإسبانيا، وفي عام 1971 أحدث صخباً عظيماً في تركيا ثم قوطع تماما. لم يشتهر كتابٌ من عنوانه واستخدامه في الأمثال السائرة مثل هذا الكتاب، وباع عشرات الملايين.
 
يكفي، والقائمةُ تطول، ولكن يعلمنا تاريخُ الكتابِ في كل زمانٍ أو مكان.. أنه لكي تـُطلقَ كتاباً في سماءِ الشهرةِ.. امنعْه!
 
في أمان الله..