مقتطفات الجمعة 1
سنة النشر : 14/11/2008
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 1، راجيا أن تنال رضاكم.
قضية الأسبوع: توحّدُ الأمة: أخطر ما يواجه تفكك المجتمعات ليس الاختلافات المذهبية والعرقية إنما هو نفثُ النارِ فيها.. وحتى تجعل النارَ تشتعل وتتوهج لا بد من توفير بيئةٍ معاونةٍ على الاشتعال.. وإطفاءُ النار والوقاية منها يحتاجان أيضا إلى بيئة تهييئية واستعدادية. برأيي الشخصي، أنه من السهولة توحيد صف أي أمة، بشرط أن نهيّيئ البيئة المناسبة، والبيئة المناسبة هي العملُ على الأرض، التطبيق الواقعي. الحوارات المذهبية والعقيدية والانتمائية في وسائل الإعلام بيئة توقد نيران الخلاف، وتعمّق الشقوقَ والصدوع في جدار الأمة.. مهما كانت طبيعتها سواء أكانت انتقادية أم إصلاحية أو تقاربية فهناك دائما ردٌ، وردٌ على الردِّ.. ثم .. بُم: الانفجار. وهذا رأيناه على القنوات وفي الصحف وفي مواقع الإنترنت والمدونات.. تجربتي أنا، القليل الدور، حاضرة في إثبات توحد الأمة. إنها مواضيع إنسانية لأشخاص سعوديين، تعاطف معهم أفراد المجتمع بكل ألوان طيفه.. بلا استثناء.. كيف؟
ناجي: ناجي هو الشاب الصغير، الذي غادر الفانية في الثامنة عشرة من عمره، بعد أن كتب لي أهم رسالة وصلتني في كل حياتي، وربما القادم من بقيتها. كتبها وهو يعلم أنها آخر ما يكتبه لأنه أسلم الروح فجر تلك الليلة. كتب لي عن معاناته كأخرس ومقعد مع أنه يتوقد عبقرية، كان رسّاماً انطباعياً مذهلاً، ومنشئ أسلوبٍ أخّاذ، وشاعراً يحرك أقسى القلوب.. قبل أن أعلم بموت ناجي، نشرتُ رسالته كما جاءتني بلا تعديل، كيف أعدل وهو الأكثر عناية باللغة؟ وفجأة وكأن سدّ عاطفةٍ انفجر، فتدفقت سيولُ التعاطف مع ناجي بالعروض، بالأموال، ورغبات التعرف الشخصي من كل مكان بالبلاد، وخارجها.. وطارت رسالته في مدوناتٍ مختلفة المشارب، ومواقع متباينة الانتماء.. لم يسأل شخصٌ واحدٌ، ما هو لون ناجي؟ ما هو مذهب ناجي؟ أو ما هي قبيلة ناجي؟ ولا ما هي منطقة ناجي؟.. ناجي في ذاته وحالته وحّد الأمة.. لأنه تهيأ ظرفٌ للأمة أن تتحد.
ولما مات ناجي نعاه الكتابُ بكل ميولهم، في الداخل وفي البلاد العربية، وقامت له المراكز والجمعيات التي تعدت السعودية إلى البحرين ووهران بالجزائر وخنيفرة بالمغرب وملقا بإسبانيا.. وفي باريس مركز يديره رجل أعمال تونسي يقدم تسهيلات العلاج للأطفال المصابين بعيوب القلب الخلقية باسم ناجي.. والحمد الله.. حلمت يوما أن ناجي يقول لي: عمي نجيب.. ما أجمل الحياة!
سلمى: هي البنت التي كانت متروكة من أبيها، وما زالت، التي كادت تضيع في بؤر استهلاك اللحم الإنساني لتجارةٍ بائسةٍ ومشينةٍ، وكتبت عنها، وأيضا انفجر ذات السدُّ العاطفي.. وانهالت علي طلبات التبرعات والرسائل من كل مدن البلاد تجاوبا وأملا في إنقاذ البنت السعودية اليافعة من مزالق وكمائن الحياة في الغربة.. لم يسألني أحد من هي سلمى، ما لونها، ما مذهبها.. تعاطفوا جميعا بمقاربةٍ إنسانيةٍ ووطنيةٍ لكونها سعودية.. سلمى الآن تتلقى دروسا مكثفة في الدين الإسلامي واللغة العربية وتحجبت.. والفضل لله ثم لأن أميرة الإنسانية سارة بنت مساعد بن عبد العزيز طلبت أن تتكفل وحدها بأمر سلمى.. ونوقش موضوعها تحت قبة مجلس الشورى، وحركت حجرا في ماء راكد فبدأ الاهتمام بأبنائنا المتروكين بالشرق، وهم الأكثر استحقاقا للغوث، فمع أن لدينا مثيلا لهم في البلدان العربية لكن يبقون، رغم فظاعة ظروفهم، في مجتمعات حاضنة لثقافتهم ودينهم ولغتهم، أما في الشرق البعيد فهم يُرفـَضون أو يذوبون في ثقافةٍ ودين وعادات تلك الأمم. سلمى في ظرفها وفي وقتها وحّدت الأمة لأنه تهيأ ظرف للأمة أن تتحد. سلمى تقول: الحياة جميلة!
فاطمة: في ضاحيةٍ من أعمال منطقة القطيف من أم مصرية وأب سعودي، عاشت هذه الشابة ثلاث سنوات متروكة وحيدة في مبنى عام بعد أن تركت والدتها لتأتي للبلاد لإنهاء أوراقها الثبوتية. كانت تعتقد أنها رحلة أيام، فإذا الإجراء وتعقد الظروف يغرقانها في مستنقع من طين متحرك.. فتضيع سنوات من عمرُها ودراستها وتتشتت كالمساكين في ظرف غريب، ووضع طارد، وتتبخر أمامها أحلامُ حياتها، وشوقٌ، كما كتبت لي، كسكين مثلوم ومسموم يشقّ قلبَها شوقا لأمِّها.. لما نشرتُ موضوعَها انفجر ذاك السدُّ العاطفي بلا شرطٍ ولا سؤالٍ من كل مكان بالبلاد. وتحرك الرسميون وسرّعوا الإجراءات وتضافرت هيئة حقوق الإنسان، وشابات يزرنها في مكانها.. وأمس أُنهـِيَتْ إجراءاتـُها، وهاتفتني: أخيرا سأتسلم أوراقي وسأرى والدتي الأسبوع القادم إن شاء الله.. ثم بكت بنشيج وسألتها أن تهدأ.. وقالت لي من شهقاتها: أبكي لأني سعيدة.. الحياة جميلة!
غوثُ الفقراءِ والمحتاجين: كان من نِعَم الله علي المشاركة في تأسيس أو شهود بزوغ عدة أنشطة خيرية اجتماعية.. وتأتي التبرعات والمشاركات في بناء المساكن، والتموين الصحي والغذائي، ومشاريع التدريب والتوجيه من كل طيوف البلاد بلا تفرقة ولا سؤال.. الكل يتعاطف في عمل الخير من القطيف إلى القصيم إلى الجنوب والشمال.. هذه الأعمال توحد الأمة، وتهيئ ظرفا للأمة أن تتحد.. لما ترى كيف يعمل الناس ويتضافرون لن تصدق عينيك لحجم تعاظم عملهم، وهذا تفسيري أن اللهَ يقول لنا إنه سيرى عملنا. وشبابنا أسسوا أعمالا لافتة في الخبر والدمام ارتفعت من أفراد في أولاد الخبر وبناته إلى أن احتفلوا في كانون الثاني (يناير) الماضي بالعضو رقم ألف! وأولاد الدمام وبناته الآن فاعلون ويؤازرهم الجميع في الدوائر الحكومية وقطاعات الناس.. إنهم شباب توحدوا برغم شوارد الظروف، وهيأوا للأمة ظرفا كي تتحد.. اقترحت يوما أن يكون شعارهم.. " كي نرى الحياة جميلة!".
شاركتُ وشهدت وتعاملت مع أكثر من 25 منشطا وعملا اجتماعيا أهليا ومؤسسيا.. أعمالٌ تبهر الروحَ وتطرب النفوس.. فترى الخيرَ في جذر الأمة، بقلبها في أعماق روحها.. وهذا ظرف يدل على أن الأمة ستبقى وستسود وستتماسك.. بشرط ألا يعكر أحد ذلك.
الحياةٌ جميلة.. ولكن علينا أن نثبت ذلك!