سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. جاءني الشابُ وجلس بجانبي، وقال لي: "أخبرني يا أستاذ عن موقفك من تلفزيون الواقع، هذا الذي يشمل ستار أكاديمي، وبرنامج الوادي؟" فعجبت من السؤال ومن تجرؤ الشاب، على أن محبتي الغامرة للشباب تجعلني أتقبل روحهم الصريحة، وعقولهم الذكية التي لم تتلوث بما نسميه خبرة الحياة المليئة بالتحايل والتذاكي والكثير من المحاذرة.. فأجبته: "طبعا لا.. ما هذه السخافات، والترهات، إلا بيع لكل ما ينافي الأخلاق والذوق، ويخاطب أحط الغرائز في سلم الطبائع البشرية. وهذا يثبت أن النجاحَ إن كان فقط في جمع الأموال كهدف لا يعني أنه بالضرورة ينعكس على التطوير ورفعة القيمة الإنسانية الفردية، والجماعية.. لا يا حبيبي، طبعا أنا لست مع تلفزيون الواقع.. أنا ضده على طول.. انتهينا؟"
إلا أن الشابَ لم ينتهِ، بل وضع السؤالَ لأنه كان متوقعا لإجابتي ( .. وأنا الذي أقول إنهم بذكاء برئ، يا لهؤلاء الصبية!) وفاجأني بثبات تحسده عليها جبال عسير قائلا: "ولكني أنا مع تلفزيون الواقع يا أستاذ، وأنت أريدك أن تكون معي، بل أن تجاهر أمام الناس بذلك، وتساعدني على نقل تأييدي هذا.. على أن تسمح لي بإبداء وجهة نظري." وأرخيتُ إذني للشاب، وأنا من داخلي أشعر نحوه بالشفقة ولكني صبرت لأعطيه النصيحة بعد أن ينتهي مما سيقول.." مهما قال، فإنه لن يقنعني، فالإقناع بالباطل .. باطل!" ..هذا ما قلتُ لنفسي، مع ضحكة رثاءٍ وعطف.
قال الشابُ: " اسمع يا أستاذ. نحن تعودنا أن نلوم وننتقد كل ما يأتينا ويضايقنا، أو يضايق البعض منا. ولكن قل لي يا أستاذي هل ينفع ذلك؟ أعطني مثالا واحدا، واحدا فقط، لـُمـْنا به ظاهرةً من الظواهر المخلـَّة فانتهت وتلاشت أمام صراخ احتجاجنا.. لا تتعب ذاكرتك المجهدة يا أستاذ فإنك لن تجد. ولكن لو طلبت منك أن تعطيني أمثلة بظواهر مخلـّة زاد من الإقبالِ عليها التحذيرُ والتهويشُ والغضبُ، بل أوصلها لمن لا يعلمون عنها، وجعلهم يتعرفون عليها ولو من باب الفضول.. فإنك أيضا ستتعب في وضع مثال واحد، ولكن هذه المرة من زحام الأمثلة.. التي تبدأ من تلفزيون الواقع وتطول كل شيء تقريبا. ننسى يا أستاذي هذه الحقيقة ونكررها كل مرة ولا نفهم" (يبدو أن الضمير عائد علينا.. الجيل الأكبر، كما أظن، على أني لم أجرؤ على الاستيضاح) .."في كل مرة تكبر كرةُ الثلج التي ندفعها بكثرة احتجاجنا الذي يزيد من حجمها ضخامة وقوة تدحرج في كل دفعة.. لأننا لا نفكر في المنطق، ولا نتريث" ( همم، صبي يعلمني التريث والحكمة.. ما الذي جرى بالدنيا؟) .."أننا يا أستاذي مثل حصان السباق – حتى لا أعطي مثلا آخر- الذي توجه عيناه بصادَّيْن حتى لا يرى إلا فقط سطر المضمار الذي يجري عليه.. أي نركز على المحتوى ولا نركز على حامل المحتوى.."
رفع الشابُ أمامي كأسا خاليا ثم تابع بعد أن تأكد أنه شدني تماما لسماعه: " أترى هذا الكأس يا أستاذ إنه مجرد حاوية.. وهنا المسألة إن وضعت به سما فالناس سيقولون لك هذا سم ابتعد عنه، إن وضعت به عسلا سيحثونك على النهل منه.. في الطريق نسوا الكأس نفسه.. الكأس الذي حمل السم الزعاف، هو ذاته الكأس الذي حمل العسل الترياق.. أترى؟ هل تفهمني يا أستاذ؟"
واعتدلت بجلستي:" أظن أنك تريد أن تقول أن تلفزيونَ الواقع هو الكأس، وبما أن الكأسَ لا يلام إن حمل سُمّا، فهو أيضا لا يُحمَدُ إن حوى عسلاً.. ولكن كيف ينطبق هذا على تلفزيون الواقع؟"
" أحسنت يا أستاذ" (هه!).."التلفزيون هو الكأس. تلفزيون الواقع حمل برنامج ستار أكاديمي والوادي فصار سُمّا.. وليكن! ولكن تذكر جيدا أن مجتمعنا محافظ جدا" (أذكر أمام صبي يا للسخرية!) .." ومجتمعنا مشهور بتصنيف المهن، بل إنه كما أعرف، وكما تعرف، يصنف أهلية الأفراد بمهنهم، فهناك مهن لا يستسيغها المجتمع ومنها الغناء.. ولكن لما فاز شاب سعودي بالمركز الأول بالطرب، قامت الدنيا ولم تقعد، واستـُقبل في المطار استقبال الفاتحين، تحطّ به طائرةٌ خاصة .. السبب أن تلفزيون الواقع يصنع القدوة والامتثال.. والإعجاب والرغبة في النهج على نفس المسار.. شئنا أم لم نشأ."
"آآه، همم".. " أرجو ألا تتأوه أو تهمهم يا أستاذ إنه واقع ولن تغيره أنت ولا أنا ولا كل ملامة الدنيا. إذن علينا أن نملأ الكأسَ بالعسل الترياق.."
.. " يعني أن نصور لمدة أسابيع شباب يتسابقون على إنجاز مكنة سيارة مثلا، مع مقامهم، وشربهم وتصرفاتهم تحت الكاميرا ، ثم يُختار الفائز.. إن الفائز سيسجل بطلا قوميا.. ستكون مهنة الميكانيكي إذن القدوة والامتثال.. والإعجاب والرغبة على نهج ذات المسار.. صح؟" قبل أن أومئ برأسي موافقا، تابع الشاب:" وهكذا مهن كثيرة ، مجموعة شباب في منجرة، مجموعة تكتب قصة بفصول، مجموعة في ساحة بناء.. الفائزون سيسجلون أبطالا.. وستكون مهن النجار، والكهربائي والبناء، والكاتب القصصي مثارا للإعجاب والرغبة في نهج ذات المسار.."
ثم نظر إلى بعينيه الواسعتين المتلهفتين وقال: " .. وهكذا.."
مددتُ يدي مصافحا الصبي الحكيم: " أعدك أن أنشر فكرتك، وأن تكون حِكراً لك، متى ما أراد مهتم تفعيلها لتكون خدمة لفتيات وفتيان الأمة."
ولما خرجت ، عدتُ له بسرعة ، وقلت له مشيرا بإبهامي:
" .. نعم، أنا مع تلفزيون الواقع!"