الهند هندك

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

دخلنا السوق الكونية وبالتالي لم يبق لنا إلا التحدي والبقاء .. ولا بأس من التفكر حتى في التفوق والارتقاء. ولذا لم يعد ينفع أن ننتقد السوق أو نمتدحها، ولأنها صارت واقع حياة فيجب إذن أن نعيشها .. على أنه كيف سنعيشها، أو ما العيشة التي نقبلها ونسعى لها ونرتضيها. وهناك خرافة عظمى يغطي ضبابها العالم (أو بعضا كبيرا من العالم) وهي أن التفوق على الغرب لم يعد من دواعي الفكر الواقعي، والبعض يرى أن أفقه أبعد من آفاق الأحلام .. على أن بعض الشعوب لم ترد أن تصدق الخرافة، أو أنها وضعت نصب عينها أن تواجه الخرافة، ولا طريق ولا مخرج غير ذلك .. فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العـِدا!

قد تعلم أن الاقتصاد العالمي بدأ موجة انتعاش جديدة في أنحاء من الأرض .. وما أقوى الاقتصاديات كلاسيكيا التي تقود عربة الاقتصاد الكوني؟ عادة الأمريكي، والأوروبي والياباني .. ولا نظن أن هذه هي المعادلة الآن .. فتحت الجسر مرت مياه كثيرة.

التي تقود القطار الاقتصادي الدولي الآن الولايات المتحدة، والصين .. والدولة التي تهمنا هنا.. الهند!

لي عشر سنوات وأنا أتحدث عن الهند في أكثر من مكان، في أكثر من جريدة، وفي عشرات المواضيع، ونقول دائما يا جماعة أنظروا ماذا يحدث في الهند؟ وسـِّعوا حدقات عيونكم، وانظروا إلى تجربة عظيمة تـُطبَخ في شبه القارة، وكنا نقول استفيدوا من الهند، من الطاقة البشرية الهائلة، ومن شركاتها الكبيرة، ومن قدرتها التنافسية التي لا تقارن .. ومن الحس التجاري الجديد الذي بدأ يسري في كل القارة، مثل تيار الكهرباء ..

 

لم يكن الداعون المثابرون لما يسمى " المايكروإيكونوميكس" microeconomic وأترجمها باجتهادي في العربية إلى الاقتصاد المنمنم، يشعرون بالحماسة والزهو كما هم الآن .. وهذا أحدث أثرا مرئيا في ميادين الأداء الوطني الهندي العام. وندعو خبراء التخطيط والأكاديميين إلى العناية بقفزات التطور الهندية، والاستفادة منها تطبيقيا عندنا. نعم .. جاء الوقت أن نتعلم من الهنود .. كما رضينا أن يعلمنا طويلا غير الهنود!

إن أردنا الاستفادة والتعلم من الصحوة الهندية فلم لا نبدأ التنقيب عن أثر سياسة الاقتصاديات الصغيرة التي تحمس لها الهنود، وانتشار ما يعرف بالمراكز التجمعية المتخصصة التي تجمع القدرات الشابة في البرمجيات وغيرها من كل أنحاء الهند الشاسعة، لتكوِّن ثروة معرفية ومهارة تقنية وعقولا شابة تنبع من الهند، وتصب في شمال الأرض حيث الغنى والقوة والتقدم .. يوما ما وقد يكون قريبا كما قرأت في تقرير أمريكي سيجف وادي السيلكون لأن منابع المياه التقنية والبرمجة والشرائح المتناهية الصغر ستهاجر (وتهاجر حاليا) بالجملة إلى الهند، حيث الكفاءة والأسعار الأرخص، والجدية الأكبر .. بل شاع الآن في الغرب أن التلاميذ الهنود في مدارسهم أرقى أداء في العلوم وفي الرياضيات من أبنائهم وبناتهم، ويحصدون أعلى الدرجات الشرفية .. ترقبهم، سيكونون هم من أهم شرائح علماء الغرب بعد زمن مُعاش.

ولذا، تعيش الهند ازدهارا واضحا في الصناعة، وفي الزراعة وفي قطاع الخدمات. وحقق مجمل الإنتاج المحلي زيادة مقياسية قدرها 9 في المائة في العام الماضي ومرشحة لمعدل مماثل أو أكثر لهذا العام. وتتحكم الهند بمهارة فائقة بمعدل منخفض للتضخم، واحتياطيات بالنقد الأجنبي تعدت 120 مليار .. الهند صارت محركا اقتصاديا عملاقا على سعة العالم.

والهند الآن كما هي أكبر ديمقراطية على الأرض، وفيها حرية فكرية ومذهبية وسياسية واسعة، وهي أيضا أصغر أمة على الأرض، ونقصد من حيث أعمار السكان ( المتوسط العام أقل من 30 عاما) .. ولكن تمهل معي .. هؤلاء الشباب يتخرجون في الجامعات بإنجليزية عالية في التخاطب والكتابة والمهارات العملية الأساسية (وعندما تقرأ في جرائد ومجلات وكتب الهند تجد منهم أقدر الكُتاب باللغة الإنجليزية) يتخرج الفتية والفتيات في الجامعات وهم ملمون، ومدربون بدقة في علوم الهندسة والرياضيات والطب والتقنية، وهم سيكونون في الوقت المُدرَك – بل بدأوا بالفعل - يشكلون المقترحَ البديل للمهارات الحيوية التي بدأت تفقدها الدول الأوروبية ( واليابان بشكل لافت ومتأزم) التي بدأت تشيخ أعمار سكانها .

ونعيد أننا نعطي الهند مثالا، ونعطي ماليزيا مثالا على أن التفوق على الغرب لم يعد خرافة، أو أنها خرافة لم يصدقها اليابانيون فتقدموا، ولم يصدقها الكوريون فتقدموا، ولم يصدقها الماليزيون فتقدموا، ولم يصدقها الصينيون فتقدموا.. وها هي الهند تطوي إلى الأبد الانطباعَ الذي طال الدنيا بأنهم متولهون بالإنجليز ولا يتعدون أقل سقفهم هبوطا. انتبهَ أهلُ الهند على عدم تصديق الخرافة فجاءت الخرافة تبحث عنهم في بلادهم. لم يبق متأخرا عن الركب إلا من صدقوا الخرافة .. وما زالوا!

أهي دورة الزمن؟ الشرقُ يحكم الغرب .. لعل أعماركم تطول فتشاهدون ما سيحدث!