أمينُ الأمناء

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية


بين فترة وأخرى أتابع رجالنا الذين يضعون لمساتهم على لوحة المجتمع. ولوحة المجتمع فسيفسائية من كل لون ونوع وحجم، أي أنها من كل تخصص، وفئة، وعمل، وإنجاز.. وعلى اللوحة أسماء ستبقى ما بقيت هذه اللوحة الكبرى، لن تجد أسماء موضوعة، ولكنك ستجد أعمالا منحوتة زمنيا على جدار اللوحة الكبرى..

وهي لوحة متكاملة فيها كل الأعمال من القمة إلى ما تحت السفوح وفي عروق الأرض.. أعمال تشرق مثل بياض الجليد يكلل هامة الجبال، وتتنازل إلى أديم الأرض وما تحته مما لا نحب أن تكون موجودة ولكنها توسم لوحة بأكملها فلا ينبع الضوء إلا من الظلام، ولا يذوب الظلام إلا في الضوء.. إذن هي أسماء وأسماء، أسماء فوق مثل إشراقة قمم الثلج، وأسماء تتفاوت وهي هابطة عبر السفوح.. طبيعة الحياة، وفرض الواقع، وشرط الوجود.

أختار اليوم الرجلَ الجميلَ العطاء، اللطيفَ السجية، المحبوبَ الشخصية، الرجل الذي عاش الوظائف وعاشته، الرجل الذي ينسحب من المكان ويترك ضوءه الثلجي بعد أن يذهب، ثم ينتقل إلى قمة سابغة لينثر عليها من بياض الثلج، وهي هذه النيرات من الأعمال. لقد قال لي مهندس عمل معه سنوات في أمانة الرياض: "هذا الرجل خلق ليكون معلما. ولقد تعلمت منه الكثير، لذا فإنه لا ينسحب من قلبي وذاكرتي، لأن ما علمني إياه باقٍ في عقلي، وأثـّر على مكتسبي المعرفي والعملي".. إذن، مدرسة قائمة من طوب ثلوج الأعالي، حيث المدرس يهب القدوة رغما عنه، لا باختيار منه. وحيث يتعلم الناس منه انجذابا إليه وليس انخراطا في حلقة منتظمة حوله. هؤلاء الرجال نادرون جدا، ولا يقلقنا ندرتهم، لأن عطاءهم يتضاعف هندسيا كما تتكاثر وتنقسم الخلايا الحية.. يؤلمنا عندما لا يوجدون، ويؤلمنا أكثر عندما يوجدون ثم إنهم لا يقـَدَّرون، ولا يستفاد من طاقاتهم الفيضية الباهرة النقاء. أختار اليوم بكل حبور، وبفخر أني أنتمي لبلد فيه هذا الرجل، عبد الله علي النعيم.. أبو علي!

وستجد أن عنوان المقال هو "أمين الأمناء"، واخترت العنوان لصفة غالبة فيه، نجح فيها في تجربة مهيبة، وفاتنة، ومتطلبة، وزاخرة بالمغريات الآسرة، لا ينجو من وهج جاذبيتها في الوقوع في التيه الغريزي اللوّام إلا من ندر.. إلا من رحم ربي. ونحسب أن الشيخ أبوعلي ممن أظلهم الله برحمته. نتكلم بصراحة أكثر؟ أبشروا!

وظيفة رئيس عام بلدية في أي منطقة في بلادنا هي للبعض مثل مدينة الذهب، أو كما سماها الإسبان "الإلدورادو".. المدينة الأسطورة التي ظن أوائلُ المكتشفين الإسبان في أمريكا الجنوبية أنها مدينة بنتها حضارات غابرة من الذهب. نعرف كلنا أن البلديات هي طريق للنفوذ، وطريق لفـُرص الغنى، ولا نعرف من ينكر ذلك طبيعة ومنطقا.. إن من يترفع على فرص الثراء والسلطة والنفوذ فيما رآه الناس الآن كنتيجة منطقية، ومذهبا معتادا، فهو يتبدى بصفة الزاهد المجالِد الذي يعرض عن الدنيا. والشيخ أبو علي تربع على أكبر "إلدو رادو" في البلاد، ووثق به ولاة الأمر وكانت بأمره ثروات تحت طلب المدينة الأكبر والأكثر نموا في كل المنطقة، وربما الأسرع في العالم، خصوصا في سرعة تواتر النمو أيام كان أبو علي على رأس بلدية العاصمة. لم نختره لكونه مديرا ناجحا، فهذا لا يجعلنا نعطيه صفة متميزة أو متفردة، فلو لم يكن أساسا من الناجحين لما تسلق درجات سلم المناصب، ولا لكونه دؤوبا منكبا على عمله، كثيرون يصلون الليل بالنهار. ولو كان مجرد إنجازٍ (وإنجازه في المدينة مسجل ومشهود) لما اخترناه شخصية تبز بعيان فوق شخصيات المنجزة.. فالإنجاز مطلوب في كل منصب، وخصوصا لما تتاح الأموالُ، ومساحةٌ حرةٌ لتطبيق الأعمال كما في الخاطر وفي الأفكار. وإنما نخص مبعث الخير الذي يهل من بعده كيس الخيرات من فضائل الأعمال، وهو حمل الأمانة، لما تكون الأمانة خزانة تملك مفتاحها والتصرف بها، وتملك التبريرات والمعاذير لو أردت لوي قنوات صرفها.. وهذا يحدث، ومازال، وليس نادرا في الشواهد والأدلة والانطباعات. وعندما تكون الأمانة صعبة التحقيق، حتى لو حققتها، لن يصدقك الناس الذين يقدّرون عظم جرعات الإغراء. حين تكون مهمة الأمين لتحقيق الأمانة رحلة بدايتها ونهايتها تجاوران المستحيل. رجلنا نادر لأنه اجتاز الرحلة بنجاح، هاتوا لي واحدا يرفع حاجبا (وليس إصبعا) للتشكيك والاتهام في حق الرجل يوم كان أمينا للعاصمة. ولن أطلب منكم أن تجدوا من يرفع عشرة أصابع ضد آخرين، فستجدون وبسهولة، آسف إنها حقيقة.. حقيقة تملأ العين!

أبو علي، الأمانة صفة غالبة فيه، متفوق من خلال طغيانها على كيانه، فستجد أنه لما ترك، لم يتركه ولاة الأمر لما يتطلب العمل جدية، ومعرفة، وعلما، وانكبابا، وتعلقا بالهدف، وتكلل كل ذلك الأمانة، وأمانته لا تخطئها العين..

بدأ أبو علي يلمع في "الأمانة"، وما زال يترحل، تقـُلـُّهُ محفة ٌالأمانة أينما حل وأينما أدار عملا. يترحل ويترك وراءه علامة ثلجية مضيئة تقرأها هكذا: أمين الأمناء.

تصفحت كتابا أهدانيه ضمن ممن وزع عليهم الكتاب، وأعرف أنه حرص أن يكتب لكل فرد مقدمة تخصه وحده كما عمل معي، وهو عن العمل التطوعي. والعمل التطوعي ليس إثباتا للأمانة، ولكنه نتيجة لها، حين يتصدى المرءُ لعملٍ يأخذ جهدَهُ ووقتـَهُ، ولا يستفيد ماديا منه. على أن الاستفادة الكبرى محفوظة في أجلِّ مكان.. في السماء.

والكتابُ عن العمل الاجتماعي التطوعي، من نوع الكتب التوثيقية، وينبئك عن المرحلة التي يمر بها أمين الأمناء، المرحلة الطبيعية التي يصل إليها أصحاب الأمانة والعمل والروح الحانية..مرحلة العمل التطوعي، أسمى الأعمال بلا منازع.. القمة الثلجية التي ما فوقها في سلسلة العمل قمة أخرى.

والكتاب على حرصه ألتوثيقي لأسماء كل جمعية أو شخص أو مبرة كان من المتوقع أن ينقصه اسم مهم.. وهو نقص من سبل الكمال. نقص الكتابَ اسمُ متطوعٍ فذ..
 
عرفتموه؟ نعم.. أمين الأمناء!