قف للمعلـِّمِ.. وافتح يدك!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. يقف المعلمُ "ضاري بن سادي" أمام المرآة ، يعدل مرزام الشماغ، ويتأمل في هندامه، ويعجبه ما يرى. ثم يقوم بأجمل لقطة مرآتيه يحبها، فيقرب وجهه بسرعة أمام المرآة ويعبس بحاجبَيْه، ويكشر عن نابَيْه، ويزم ما بين أذنـَيْه، ويكفهر ضاغطا على شفتـَيْه، ويرسل شرارا بتضييق وفتح عينـَيْه.. مرة أخرى يعجبه ما يرى. ويتناول فطاره على عجل.. وشهيته يسيل لعابُها على الوليمة الكبرى .. ذلك اللحم الطازج الطري في المدرسة.. التلاميذ الصغار.

يدخل المعلم ضاري المدرسة ولا يرى كتبا ولا يتأمل معرفة، ولا يضحك حتى لزملاه وهو في طريقه لغرفة المعلمين.. يدخل ضاري ملهوفا، وبسمة مهووسة تطل من وراء الملامح التي يغطيها ظل الشماغ الثقيل، وتلمع ضحكة مسبوكة من الشر، وتتخيل أن لسانا ذئبيا يتلمظ حالماً بالحملان الصغيرة تجول طرائد شهية في الساحة المدرسية.

يقبل ضاري فاركا يديه، ويفتح الدولابَ الخاص به، وإن كنت تظن أن دولابَ المعلم ضاري بن سادي غاصا بكتب التربية ومراجع المنهج، فإنك بخست الرجل حقه، وغيرت من قيمته، وحورت كل أهدافه، وسأقسو عليك وأقول: إنك متعمدا تريد أن تفسد عليه شهيته.. ولكنك لن تنجح في ذلك فشهية ضاري مفتوحة، متوثبة، نهمة، مشتعلة لا تعرف سبيلا للخمود..

عندما يفتح ضاري بن سادي المعلم في المدارس المعتمدة لتربية أولادنا وتنشئتهم، في المدارس التي يرسل كل أب ولدَه ثم يروح لشأنه آمنا راضيا مستأمنا، والمدارس التي تجهز فيها الأمَُ قطعة قلبها وليدَها الأعزَّ لليوم المدرسي، فترتب حقيبته، وتعتني بمظهره، ثم تقبله على جبينه داعية له الحماية والتوفيق بكل خطوة يرسمها على الأرض.. فإن كل أم وكل أب لا يعلمون أن بعضا منهم إنما يرسلون أولادَهم لمعاقل التعذيب، للرهبة، والخوف، والذعر، والمصير المظلم.. عندما يخرج الطفلُ من باب عتبة باب بيته ، متجها إلى مدرسة فيها ضاري بن سادي، فهي بالنسبة لمخيلته الصغيرة، نهاية العالم.. رحلة محققة إلى قطعة من عذاب النار. صحيح!

هل ضاري بن سادي قصة من خيالي؟ نعم إنها قصة من خيالي، ولم يخفكم ذلك للحظة. وهل القصة لها قصص شبيهة تقع كل صبيحة يوم مدرسي؟ نعم! وأنتم تعرفون ذلك. تصلني كل يوم على بريدي هذه الأفلام المسجلة بكاميرا الهاتف عن مدرسين مثل ضاري بن سادي، وهم يفتـَتون اللحمَ البرئَ الغضَّ بشهية الذئب النهم أمام الحمل الذي لا حيلة له ولا نصير إلا أن يستسلم لقدره، ولكنه قبل أن يستسلم فإنه يتضور، ويتكسر، ويتوجع، ويدور على نفسه من الخوف من الألم الرهيب الذي سيسقط عليه مثل الصاعقة من رجيم لا يعرف الرحمة، ثم يبدأ مرحلة أخرى هي التوسل بطلب الرحمة، والترجي والقسم بالتوبة (وأجزم أن الحملَ – أقصد الطفلَ- لا يعرف ما جناه حتى يتوب عنه) ولكن هيهات؟ فإن كل كلمة توسل وتضرع، وأن كل دمعة تنفر من العين الواسعة البريئة المرهوبة، وكل علامة من علامات الرعب والانهزام أمام السادية والتعذيب إنما هي مقبلات لشهية معلمين مثل ضاري بن سادي. لاحظتُ في أكثر من فيلم أن شبيه ضاري بن سادي، يقف متأملا منسجما طربا متلمظا أمام مشهد التضور، وطلب الرحمة، وانشقاقة الآهة من الحنجرة، وبعد أن يمتلأ استمتاعا يقوم بقصفته التالية.. ويشعر وكأنه سيد العالم.

أما من تفوق على ضاري بن سادي، فهو ذلك المعلم الذي نزل بالجَلـْدِ الصاعقِ المتعاقبِ على التلميذ الصغير الضئيل، ثم يصور هو مشاهد عذابات الطفل وتدحرجه على نفسه، وبكائه، وهو ينفض يديه الصغيرتين من هول الألم ليعيدها باستسلام الضحية المسلوخة مرة أخرى ليتابع المعلمُ المضطربُ النفسية، والشاذ الرغبات، تناول وجبته الشهية من لحمه وصرخاته.. ثم بعد ضرب مبرح، وسلب كامل لكرامة الطفل، ينسحب الطفلُ دامعاً مطأطئاً رأسَه الصغيرَ، ليحمل كتبه بيديه المتورمتين المسلوختين ويذهب إلى مقعده.. سأدفع سنوات من عمري لو كنت أقرأ في تلك اللحظة بالذات ما كان يدور في الرأس الصغير.. ربما نهاية العالم!

.. مع أني لا أود أن يعرف اليأسُ طريقا إلى قلبي، أناشد هؤلاء الأحبة الذين يراسلوني، ويصرون على بعث هذه الأفلام تكرارا، وتكرارا، تكرارا، أن يتوقفوا عن تعذيبي.. فإنهم يعتقدون أني حين أكتب ما رأيت وما انعكس على قلبي وضميري وأعصابي، فإن أحدا في وزارة التعليم سيستمع إلى ما أقول أو يصغي إلى صرخة يؤديها كامل المجتمع في صوت واحد.. كل ما أحصد، هو هشيم الحزن كل مرة.. ولا أرى بارقة تلمع في سماء تتلاطم بها سحب ثقيلة مظلمة.. لذا، وبما أنه حتى الآن لم يثبت أن حلا نهائيا سيوضع لاستئصال كل ضاري بن سادي من أي مدرسة حكومية ( وحتى أهلية..).. فإني لا أرى حلاّ أمامي إلا أني أبلـِّغُ أن كلَّ رسالة فيها فيلم من مقاطع المشاهد المؤذية في تعذيب التلاميذ مرفوضة الاستلام.. واجعلوني رجاءً أعيش بقية حياتي آملا أن شيئا جميلا قد حصل.. فلا تعكروا لي هذا الأمل!

مكالمة من وزارة التعليم :

- أنت نجيب الزامل، الكاتب في الاقتصادية؟

- نعم

- طيب قم.. وافتح يدك!

..أف! الحمد لله كان كابوساً!