سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
* سُجى.. "طفلة سودانية فقدت أمها في حادثة الجسر وخرجت من بين جثث الضحايا" ـ الشرق الأوسط، عدد الأمس.
أقول لك يا بنيتي إني أغالب الدمعَ وأنا أرى عينيك الواسعتين تفيضان ألما ودهشة وحزنا وضياعا وخوفا. لو دخلت قلبك الصغير لما توقف الدمعُ أبدا.. هذا القلب الآن يحمل ألمَ الدنيا.
أقول لك يا بنيتي إني لن أستطيع أن أعدك بأن هذا لن يتكرر في المستقبل، إنه شيء يحدث يا صغيرتي، يحدث أن يموت الناس ازدحاما واختناقا.. يموتون من جهلهم، ومن خوفهم، ومن تحالفهم مع بعضهم عندما يغزون الجموع كتلا متماسكين ليشقوا الطريقَ إلى الهدف، وهم لا يدركون أنهم يحرثون الطريقَ للعدم.. للموت. بل يا صغيرتي إني أخاف أنهم يعلمون أن خيارَ الموت كان حاضراً بكل هيبته، ولكنهم أيضا يريدونه، والبعض يتوقُ إليه توقا.. إنها يا بنيتي عقول لن تستطيعي فهمها، ولا نحن، ولكنها حقيقة وتحدث.. والكل يدفع الثمن، وقد دفعته في هذا العمر الصغير أمام هذه الفجيعة الكبرى.. أن تدخلي الجسرَ لرمي الجمرات ويدك ملتصقة بيد أحنّ الأيادي لك في كل الدنيا، وفجأة، تخرجين بلا اليد.. وبلا الأم.
أقول لك يا بنيتي، إني لا أعرف كيف سيُصاغ لك الخبر كل يوم تكبرين به. ستسمعين من يدعي أن السلطات السعودية قصّرت، وتوانت، أو تسببت بشكل ما مباشر أو غير مباشر بأن تفقدي أعز الناس إلى قلبك الصغير.. ولا عجب يا بنيتي. وأنا لن أقف أمامك الآن لأقول برئينا أيتها النفس الصغيرة.. لأننا نخطئ. وستعلمين لما تكبرين أن مع الأعمالِ الكبرى ومع التفاني الكبير تأتي أيضا الحوادث الكبيرة.. إنه منطق الحياة، أردناه أم لم نرده.. عنصر ثابت من منطق الوجود. نعرف يا بنيتي أن سكاكينَ الآن تـُشحذ لتلمع نصالها وهي موجهة لصدورنا هنا في بلادنا.. وأيضا أقولُ لكِ هذا أمرٌ من طبيعة الأشياء، فسكاكينُ المنتقدين تلمع عند كل هِنـَةٍ كبرى أم صغرى.. لذا فنحن نتوقع ألم طعن سكاكينهم، فلقد صنعت لهم الحادثة الكبرى مسنا هائلا ليشحذوا به وعليه وفيه نصال خناجرهم.. لا بأس. إن ما يؤلمنا في الحقيقة أن أرواحا بالمئات أزهقت موتا من الخنق والزحام والدوس والرعب الأكبر.. هذا نعم سيؤلمنا.. وسيؤلمنا بشدة. نعم، يؤلمنا، أقول لك يا فتاتي معبرا عن كل بلادي، إنك فقدت أمك.. وإننا فقدناها أيضا، ومعها فقدنا أرواحا كثيرة، ولن تعود.
أريدك يوما وأنت تكبرين يا حبيبتي الصغيرة أن تأخذي للذكرى الحياتية الصورة التي نشرتها الشرق الأوسط (يوم أمس)، وأنت بالصورة آية من آيات الله السامية الحسن والدعة، وعلائم الذهول تملأ تعابير وجهك الصغير، وأن تتأملي جيدا هذا الشاب المقنع الذي يجثو على ركبتيه أمامك، ممسكا بكلتا يديه بحنان عظيم يدك الصغيرة، ويشد عليها حبا وخوفا، حبا لك أنت، وخوفا عليك أنت.. وأن تلاحظي هذا الرجلَ الذي يقف خلفك يكاد يحضنك وكأنه انعزل عن العالم فلا يرى إلا أنت، ولا يشعر إلا بك، ولم يعد همه إلا أنت. رجلان.. صرت فجأة في قلب عقليهما، وقلب ضميريهما، وفي قلب قلبيهما.. هذان الرجلان يا صغيرتي الحبيبة هما .. بلادي.
لست مخولا ولا قادرا على وعدك أيتها الحبيبة.. ولكن هي آمالي. آمل من كل قلبي أن تكبري يوما وراء يوم ولا تكون هذه الحادثة إلا ذكرى تدعين فيها لأمك، وأن تصدقي جدا أنها ماتت على أقدس تراب من كل ترابٍ على الأرض، وأنها بعزة الله وبرحمته، مع الشهداء في عليين. آمل من كل قلبي أن نجد الحلول في أن نمنع ما استطعنا حدوث هذه الفواجع.. وأن ندرك نحن أن ما نذكره عن تدافع الحجاج وجهل بعضهم، وتدافع بعضهم، وافتراشهم الطرقَ والمسالكَ هو مع أنه من مبرراتنا عندما يدق جرس الموت.. إلا أننا سنفكر في المستقبل بأن هذا لن يتغير، لأننا لا نملك أن نغير طباع هؤلاء الناس، وكل تاريخ المواسم يثبت أن هذا لا يتغير، وبالتالي لا أرى أنه سيتغير في المستقبل.. إذن سنبني خططنا من الآن أن تكون المبررات هذه، أسبابا وحوافز للأذهان في أن نفكر بعقلية جديدة كاملة في إدارة كل المواسم، عقول تعرف أن طبائع وسلوك الحجاج لن تتغير، وأنه يعيد نفسه بذات الثبات وبازدياد من موسم إلى آخر، ولكنه الوقت ليكون هذا الطبع الثابت المدخل الأول لأي خطط جديدة مقبلة، لا أن يكون فقط المبرر الأول..
ابنتي.. ستعيشين بحول الله عمرا مديدا، وسيأتي يوم يأذن الله لك بأداء الحج في أرضه المقدسة.. ومن كل قلبي أدعو ـ ومعي كل مسلم على الأرض ـ حينها، أن يسرك ما سترين.. آمين.