قصة مساهم..

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية


.. يكاد حمد أن يكون خبيرا في الأسهم، ولكن عفوا يجب أن أكون دقيقا عندما أتحدث عن حمد، فخبرته في الأسهم فريدة ربما في كل العالم، على أنه ليس الخبير الوحيد في البلاد، بل إن البلاد تغص بخبراء مثله.. وأنا أقول لك إن حمد خبير ليس من واقع أن ينجح المرء أو يصادف فشلا مزلزلا، بل من حيث إتقانه لما يعمله ومعرفته لطرائقه، هنا أقول لك إن حمد خبير بكل المعايير التي تريد، علمية أم إقليمية أم خليجية.. في جغرافية الأسهم!

حمد موظف في المرتبة الخامسة في "النعيرة" وهي قرية خارج خريطة الطرق الكبيرة، وهو سعيد براتبه، وبما أنه في عقده الثالث ومازال عازبا ولأن شراء المقتنيات ليست من مظاهر وطباع القرية فإنه يوفر كمية محترمة من الراتب القليل.. ولكن مرة أخرى أود منك أن تمهلني كي أصحح ما قلت، أو كي أكون أكثر دقة، فمن مستلزمات الراوي أن يكون محددا ودقيقا.. فالحقيقة أن حمد.. "كان" سعيدا.

لما يخرج حمد للمكتب في المدينة التي تقع وسط الطريق السريع الرسمي بسيارته البيك أب الكورية الصنع، فإنها رحلة معتادة، بل إنه يأنس لها وهو يرى قطعان الخراف، ويحب أن يبعث السلام بإشارة من يده من نافذة السيارة إلى الراعي الصومالي الذي يقف كرمح أسود وسط القطيع، أو بشير السوداني الذي يقود قافلة من أصائل الإبل، ثم إنه لا ينسى أن يعدل مرزامه، من يدري؟، فقد تمر الصبية التي تمخر البرَّ بشاحنتها الصغيرة، فيلحق أن يبتسم، قبل أن يلفها ويلفه نقعُ الغبار.

حمد يصل المكتب كعادته متجاوزا الخط الرسمي للدوام بدقائق أو بعض الساعة لا فرق، ولم يعجب كثيرا أنه كان وحيدا في المكتب تحيط به طاولات زملائه الخالية.. على أنه لما تعالى الصوتُ وازدادت زحمة الضجيج في قاعة الاستقبال، كان لا بد أن يهرع لخارج المكتب، وهناك سمع ضاحي يخطب في زملائه خطبة مثقفة مثل الذين يظهرون على شاشة المحطة الفضائية في لقاءات حركة الأسواق، وسمع لأول مرة بـ "دانة غاز".. ولأول مرة في حياته صارت آماله كلها معلقة بدبي. حيث الثروة، كنز الكنوز "دانة غاز".

اعتلى حمد صهوة الشاحنة الكورية الصغيرة وحيدا، وسحب المبلغ الذي ادخره من رواتبه ووجه بوصلة عقله وسيارته مئات الأميال إلى دبي. ولقد كان الطريق عذابا متصلا من المارد الأسود النائم على الكثبان بلا نهاية، والشمس والصحراء والتراب.. ولما وصل دبي أوقف سيارته المنهكة، وركب على مقدمتها لا يدري ما العمل.. نام تلك الليلة بمحاذاة الشارع الكبير، ولكن سيارة الشرطة الدورية، قادته خلفها إلى نـُزُلٍ صغير. ولن أقول لك إنه تألم من دفع المبلغ الكبير الذي جعل شدقه ينفتح على آخره ولا يعود، ولكن الذي كان مثل تقلبه على صهيد كثيب صحراوي في قائلة الصيف، هو خراجُهُ مع موظف الاستقبال الهندي.

غادر حمد وقد قرض الفندقُ لقمة كبيرة جدا من كعكة ماله. لم يكن صعبا أن يهتدي حمد إلى اكتتاب "دانة غاز" فقد رأى عاصفة كاملة من السيارات تحمل لوحة الحروف الهجائية الشهيرة، فتبعها وهو ينشد أنشودة كان يدندن بها أبوه لما يهبط المطر.. وكان مطر "دانة غاز" جافا، محموما، مزحوما. حمد، حتى لا نفصح عن تفاصيل الميلودراما اشترى أوراقا بقيَمٍ خياليةٍ لم يعرف معناها، وهجع مرات أخرى في بيوت ضيقة بمبالغ كل ليلة تشتري خروفين مليئين.. ولما تدافع ووفق في اكتتاب بأسهم بعدد محدود، تلمس النقودَ التي في جيبه، ووجد أنها بالكاد تعيده بكرامته إلى حيث يدور الراعي الصومالي، والحادي السوداني، والظبية الصحراوية التي تشخط بسيارتها مثيرة نقع الغبار.. وإلى المكتب الذي لا علاقة له بالساعة المعلقة في بهو المدخل.
أما حساب حمد البنكي فيعاني الأنيميا الحادة حتى الآن..

وصل حمد, واستراح وراح يرجي هطول المطر، ولما هطل كان قطرة زادت الصحراء عطشا، وانكب على ديدنه اليومي.. ولما وصل المكتبَ قبل أسبوع كان ضاحي يعتلي طاولة الاستقبال، وسمع هذه المرة عن بنك الريان في الدوحة.

في صباح اليوم التالي حمد يقود حملة صغيرة موجها بوصلته إلى الدوحة، ويجلس جلسة العالم الخبير بجوار لاحق الذي يقود الحافلة الصغيرة، ويلتف إلى أفراد حملته يلقنهم دروسا في الإقامة، وفي طرق الاكتتاب.

ولما شخطت أمامه بيك أب الظبية البرية الياباني، لم ترتفع يده لإصلاح المرزام.. فقد كان قد باع لضاحي شاحنته الكورية!

* اسم القرية وبقية الأسماء من مخيلة الراوي.