شبابـُنا.. المنبوذون الجـُدُد؟ (1 من 2)

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. يستيقظ سعدٌ باكرا، فاليوم الخميس. يفتح الستارة ويتنهد: الله، يوم جميل. ولفـَّته نسائمُ الفجرِ اللطيفة. دخل ليأخذ حمّامَه الصباحي، وأغرق جسدَه النحيل في كامل الحوض الذي نثره بفقاعات العطور والأعشاب. أكمل زينته، وارتدى ثوبه المهندم واعتمر الغترة المنشاة، ثم رشة عطر أخيرة.. وقبل أن يخرج رجع مرة أخرى، وبحركة طيرٍ سيقلع في الحال أخذ نظرة سريعة في المرآة، ليتأكد أن خط مرزام الغترة يطلّ تماما على امتداد الأنف.. فرك يديه، ودلدل مسباحَه الكهرماني، وتناول مفتاح السيارة بين أصابعه الدقيقة، وكان اليوم يبدو مشحونا بالأمل والنشاط.. ثم تناول الهاتف:

- صباح الخير يا عادل، هل أنت مستعد للخروج، سأمرّ عليك في الحال.

بصوت متثاقل لم يزل يحمل نكهة النوم ـ صباح الخير يا سعد، لماذا تمرّ علي؟ فاليوم الخميس، ولا كليَة اليوم..

- سنخرج، نتجول في المدينة، ونتناول القهوة، ونقضي يوما نسترد فيه طاقاتنا، ونضحك، أنت عارف..

- يا شيخ أنت فين؟ تعرف أني لا أحبّ قضاء الوقت في الشوارع. أنا أحب المجمّعات التجارية، أحب أن أجول بها وأتفقد الجديد، أحب أن أدخل مكتبة بوسط مركز، أحب أن أشتري ملابسي من داخل مركز، أحب أن أحتسي قهوتي وأقضي مع صديق مثلك الوقتَ في "كافيه" داخل مركز، أحب أن أكون في مكانٍ عامرٍ بالناس، وهذا سبب انتشار المراكز التجارية يا سعد..

- طيب، كيفما تريد..

- اصبر علي يا سعد، الله يسعدك. هل سنذهب إلى مركز تجاري؟! ستجد أن في كل مكان لوحة مكتوب عليها "ممنوع دخول العزاب" أي نحن يا سعد. وستجد أن كل حرس المركز سيعتبرونا مثل الجراد الغازي، أو النمل الأبيض هادم المولات! طيب، أريد أن أذهب منتزها عاما، مركز ألعاب، أريد أن أتنفس الحياة مع الناس.. لن يسمحوا لنا يا سعد، فنحن غربان لا تقبلنا أسرابُ الطيور..

- ....

- لماذا سكتَّ يا سعد؟ هذه هي الحقيقة! لا، لن أدور بالشوارع، ولن أجلس على مقاهي الأرصفة. ولن يقبلنا المجتمع لنتعايش معه. إننا يا سعد "المنبوذون الجدد"، والمنبوذ يبقى في بيته أكرَم له..

ثم .. طنين متواصل.

يعود سعد لغرفته منكسرا، ينضو عنه ثوبَه المهندم، ويقلع غترته المنشاة وينثرها بلا مبالاة، ويرمي جثته المدحورة على السرير. وتدور في الغرفة رائحتان، الرائحة الزكية لأعشاب الاستحمام ورشة العطر الأخيرة، ورائحة ثقيلة لزجة وهي رائحة الكآبة والضيق التي فجأة نبعت في الغرفة..

 

.. حامد صاحبُ محلٍّ للأجهزة الإلكترونية على الشارع العام، يأتي كعادته في الصباح الباكر، ثم يطل على زجاج سيارة "ألتيما" زرقاء ، ويطرقها طرقا متتابعا بأطراف أصابعه..

- علي، علي هيا استيقظ، فقد حان موعد الجامعة..

.. يرفع علي رأسَه بجهدٍ جهيد، وعلى كل وجهه غبار النوم، يشق ثقبا في أحد جفنيه الثقيلين ليرى من الطارق، وهنأ قلبه لما رأى أنه حامد التاجر.

- جزاك الله خيرا يا عم حامد، خلاص، سأذهب لأغتسل من دورة مياه متجرك وأصلي، ثم أذهب للجامعة.

* فلاش باك: علي تلميذ قادم من الجنوب ويدرس في جامعة المنطقة، وكان مع زملائه يتشاركون في شقة ضمن عمارة خصصها صاحبُها للعزاب، ومعظمهم من الطلبة الجامعيين. لأمرٍ ما، قرر صاحب العمارة، إما بدافع منه، أو بتذمر من المجاورين من أهل الحي، أن يخلي العمارة تماما من العزاب، ليحيلها إلى وحدات سكنية عائلية.

كان مستحيلا، بالفعل، أن يجد عليٌّ مكاناً يقدر على استئجاره. بعض زملائه وجدوا مثوى عند أقارب لهم، والبعض نصب خيمة في البر. أما هو فقد غلبه النعاسُ يوما قرب محل حامد وهو داخل سيارته يقرأ كتابا في التشريح.. فنام. في الصباح أيقظه حامد الرجل الطيب، ولما عرف قصته، صار يسمح له بالوقوف أمام المحل، ويوقظه في الصباح، ويحضر له أحيانا إفطارا سريعا. إلى حد ما كان علي محظوظا.. لم ينبذه الجميع.

 

أقدم لكم يا إخوان ـ كما قال عادل ـ "المنبوذون الجدد". المنبوذون الجدد هم أولادنا، وطلائعنا الباكرة، ومخّ عظام الأمة.. نوسمهم، رغما عنا، وبصورة جماعية، بالمنبوذين. نذهب للرحلات، ولا نضع رحلنا إلا بعد أن نكشف أن المنطقة آمنة من العدو الأول : الشباب العزاب. نأخذ نساءَنا وبناتنا إلى مناطق وأسواق وحدائق خالية من ضرر العزاب. لو بأيدينا نقينا الهواء من نفـَس الشباب العزاب.. لو بأيدينا لحسبناهم من ملوثات البيئة، وأدرجناهم في توصيات قمة "كيوتو" للحفاظ على بيئة الأرض..

هل نحن نحبهم؟ أم نحن لا نحبهم؟ الإجابة صعبة! ولكن هل نخاف منهم، ونتوقاهم كما نتوقى وهج النار؟ نعم.. نعم!

من المذنب؟ هل هم المذنبون؟ أم نحن المذنبون؟ .. من الضحية؟ هم؟ نحن؟ كلنا؟

من المسؤول.. من؟

ألقاكم يوم الإثنين، ويمتنع العزاب.. طبعا!