سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
في الثانوية تعلقت به كثيرا، فقد كان مدرسا حقيقيا بما يجب أن تكون عليه معرفة المدرس ورصانته، وعطفه. كان يقول لنا: أنا المسؤول عنكم هنا، ولست فقط مسؤولا أمام مدير المدرسة أو مفتش المعارف، ولكني مسؤول عن كل واحد منكم كواجب.. سألناه: "وكيف هذا يا أستاذ؟".. قال:" أنا المسؤول عن رعية من الصغار الذين أحب أن أقودهم للمستقبل الطيب، وأحب أن أراهم معا، وأحميهم من غوائل الدنيا ومنحرفي البشر.. ومن الضياع. وعندما يضيع واحد منهم فإني لا أهنأ ولا أستقر حتى أبحث عنه وأجده وأضمه للجماعة، وأحرص عليه حتى لا يعود للتيه. أنا راعيكم، لذا من يقصر في علاماته، ومن يغيب عن الفصل، ومن لا يجاري زملاءه عليه أن يتأكد أني سأحبه أكثر وسأعتني به أكثر، وقد أعاقبه أكثر، وسأعيده - رغما عنه - إلى الجماعة ومجاورة الزملاء، هذا دوري، ولا يسعدني إلا أن يعود، ولا يشقيني إلا أن يضل أو يُعاقبَ عقابا جسديا يستفحل في نفسه، ويعزز الضياعَ في عقله وروحه".
كان أستاذا عظيما، نابها، محبا.. وما زال.
أستاذي الآن متقاعد، ولكنه مدرسي المفضل، لما دخلت الجامعة، كتبت له رسالة "أني أفتقده، وأنه ما زال أفضل من علمني" .. قضيت المرحلة الجامعية أراسله ثم انقطعت. ودارت السنوات، ونمت حصيلتي العقلية، وكثرت تجاربي، وانشغلت بقضايا كثيرة، وقفت مع بعضها، ووقفت ضد بعضها، وعرفت أني لم أصل إلى مرتبة أستاذي، وأني ما زلت في حاجة لرعايته، وكنت دائما أتساءل: "لو كان الأستاذُ مكاني في هذه القضية، فماذا يا ترى كان سيكون رأيه؟" هذا نفعني، ولكن قليلا..
ولما اهتديتُ لمعلمي، ثابرت على زيارته، رغم مرضه، وثقل السنين على هيكله، إلا أنه لم يتداعَ، فهو أول من أشار لنا عن مسرحية إسبانية بعنوان: " الأشجار تموت واقفة" وكان يهتز بهذا العنوان، وينطقها بفخامة ما زالت تتجاوب صدى في ذاكرتي. ولما جلس إليه يسألني ضاحكا: "ما هي أهم مواضيع اليوم؟".. نفس ما كان يستفتحنا به كل صباح أيام التلمذة..
.. وكنت أعرض عليه بعض أحوال الأمة، ويجيبني دوما أنه يضحك على المشهد اليومي لقضايانا ويرى أنه سهل الحل.. ولكن الصعوبة ليس في الحلول وإنما في إدراكنا الحلول.. ويقول لي: "اسمعني.. لو تخلصنا من هذا الثالوث المتحكم فينا -الغضب، والحماسة، والمكابرة - لوجدنا طرق الضياء ممهدة بالحرير إلى الحلول.."
قلت له: "هاكم آخر قضيتين، الأولى، حق المرأة في الانتخاب وقيادة السيارة، وهذه التوابع.." اعتدل معلمي في سريره، ورشف ماء على عجل وهو يضحك فتهتز كتفاه ويطلق كحة صغيرة، ويرد مبتسما: "المرأة هذه قضية الرجل منذ رأى الرجل المرأة لأول مرة.. يعني لم يرتح العالم إلا لما تركوا المرأة تفكر لنفسها. وانشغلت وشغلت الدنيا أيضا. على كل حال قضيتنا محلولة، والذي يعقـّدها هؤلاء الذين ينصّبون أنفسهم أبطالا ضد قضية المرأة أو مع قضاياها، ومنهم طلاب شهرة.. المهم أننا أكثر الأمم حظا في الحلول، ولكن كما أقول لك هو هذا الثالوثُ الذي يعطل أشياء باهرة الوضوح والعدل.. الإسلام قال لنا ببساطة إن هناك أصولا لا يجب العبث بها، أو لا نكون من المسلمين حقا، وخيارنا كأمة هو الإسلام، ثم ترك لنا الفروعَ التي تتغير طبقا لصروف ومقتضيات المعاش، وتعاقب طبائع الحياة. لتطالب المرأة بحقوقها الشرعية كاملة، وهذا من الممكن الوصول إليه إذا لم تنزلق الآن في الفروع.. أما القضايا هذه التي هي حياتية، فما يستعصي اليوم سيسود غدا كحقيقة حياة، فإن كانت القيادة للمرأة من حقائق الحياة في يوم ما فهي ستكون، وإن لم تكن فسترجأ إلى أن تكون.. تأكد من هذا. ولكننا نـُصطـَاد من غفلة، فننتقل إلى أطراف المائدة، وأُعمينا عن أطباقها الرئيسة.
وقلت له إن الناس منشغلون أيضا بالقضية الثانية.. الاختلافات ولاتهامات بين معسكرات الفكر والكل يتهم الآخر بتعطيل أو إفساد المجتمع، فتـُسـَوَّد الصفحات، وتـُؤجَّج المشاعرُ، ويتراشق الناسُ في المواقع الإلكترونية، وتنبعث معارك خبيئة، وتتلفع كراهية تود السفور. فقال لي بذات الضحكة: " وهذه المسألة بسيطة أيضا.. ولكنه الثالوث المتحكم إياه.. وأحيلك إلى مثـَل المدرسة، فهناك طلاب لا خير منهم فهم يرتكبون الخبائث قاصدين عامدين، فهؤلاء لا بد من طردهم من مجتمع المدرسة، وهناك طلبة يحبون أن يناقشوا ويحاججوا الأساتذة فإذا كان الأستاذ ضيق الرؤية فهو يترك نفسه للثالوث يتحكم به فيجني على التلميذ، ويكون قد جنى أيضا على أستاذيته. ومدرّس يهنأ برد التلاميذ، ويحب أن يبعث النقاشُ الحياة َالنشطة في عقولهم، فيرعى هذا النشاط ويحميه أيضا ألا يشط ويبالغ، وهذا حق الأستاذية. وهناك طلاب يضيعون من زملائهم ويقصرون أو يخرجون عن المنهج، والمنهج ليس قدسيا فقد يكون لهم وجهة حق، وقد يكونون من المخطئين التائهين.. وهنا على راعي الجماعة أن يذهب للعثور على الابن الضال، ولا يهنأ حتى يراه ضمن جماعته.. فخيارنا للتلميذ، إما نضع حياته في الدرب السالك للطموح، وإما أن ندمر أمامه الطريق ووسائل الطريق.."
ضحك معلمي.. ونام!