سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
لما تكون الهمةُ والحبُّ بلا حدود
.. والمعروفة بين معارفها بأم أنس
هناك بشر يكتبون كل لحظة، وكل دقيقة، وكل يوم، بعرقهم، ودمهم، وبكل خفقة في قلوبهم، ملاحمَ الشجاعة والصبر والحب، وتكون هذه العناصر متحدة بطاقات بلا حدود، طاقات لا تصدق، طاقات تخرج من منابع علوية لا نعرف من أين تأتي، ولا إلى أين تصب، فنشهد قوة مثل قوى الخيال فوق ما نعرفه من احتمال البشر، قوة سرها لا يصل إليه أحد، ومن يقوم بها هو آخر من يريد أن يصل إلى مفاتيح أسرارها .. لأنه لاهٍ بعمله المهيب الذي يصل حوافَّ الخيال، وكثيرا ما يتعداه.. إنهم ناس يعلموننا أن نسير بثباتٍ على طريق الإيمان.
ولهؤلاء البشر قصصٌ وحكايا تهز كل معطياتنا العادية، وخوفنا الذي يشلنا من أن نتقدم، وطرائقنا في الاعتراف بالسدود المقامة أمامنا فنقف ولا نحاول أن نضع خطوة أخرى للأمام. هؤلاء النوعُ من الناس هم أبطالٌ بكل ما تعرفه البطولة من معنى شريف وأداءٍ جليل.. إنهم نجومٌ من القوة والخير والحب والتضحية تنير من حولهم، ولو هم أنفسهم غطسوا في الظلام..
ومن القصص التي بثت الرعشة في كل وجداني قصة أم أنس، ولم أسمعها من بعيد بل من أخيها، قريبي وصديقي الأستاذ صالح العبد الرحمن الدخيِّل، واتفقنا معا أن ملحمة أم أنس يجب أن تخرج للناس، ليس لصالح أم أنس فهي لا ترى إلا اللهَ في السماء، وهمة لا تفتر على الأرض ولم تعد تحتاج إلى غير ذلك، ولكن نخرجها للناس لتنشلنا نحن من ضعفنا اليومي، ومن انقساماتنا، من يأسنا ومن تخبطاتنا، ولـِنـُكبر معا بطلة مغمورة مثل أم أنس نيابة عن أبطال مغمورين لا يعرفهم أحد.. بينما تلمع في الصحف والإعلام وجوهٌ قد تكون أقل إلهاما للنفوس، بل إن بعضها وجوه تجفف ما يبقى في النفوس من إلهام.
أم أنس على مشارف السبعين الآن أو تجاوزتها بقليل من السنين، وهي تعاني كوكتيلا متنوعا من الأمراض، ولكن الغريب أن كل هذه الأمراض وشراسة نهمها لم تصل إلى عزيمة وهمة أم أنس، وكأن هذه الروح الشجاعة محزمة بسورٍ قدسي لا يُهـَد. بدأت قصة أم أنس مع بنتها الأولى التي خرجت للحياة وفيها قصور عقلي حاد، يقول أخي صالح إن أول ما رأت أم أنس ابنتها بعد الولادة رفعت يديها للسماء وشكرت الله على فضله. لم تترك أم أنس دقيقة واحدة بدون أن تكون مع البنت ليلَ نهار، ولما أُجبرتْ أن تترك بنتها في مدرسة فكرية داخلية، ورأت حالة البنت تزداد سوءا أخرجتها وتابعت العناية بها رغم قصورها الشديد وتصرفاتها غير المتنبأة إلا أن أم أنس هناك.. دائما هناك. البنتُ الآن امرأة بالغة.
ولكن، هل كانت البنت تلك وحيدة لما كانت أم أنس تعصر حياتها ووقتها عليها؟ لا. فقد وُلِدَ ابنـُها أنس بعد البنت بسنتين، وكانت مشيئة الله أن يولد أيضا بإعاقة ذهنية مثل أخته، ويقول أخي صالح إنها ابتسمت لما رأته وليدا وعرفت من النظرة الأولى إعاقته، ورفعت يديها للسماء تشكر الله على فضله. وعليك يا من تقرأ، أو تقرئين الآن، أن تتخيلوا الإشراف على البنت وأنس في وقتٍ واحد، بعمرٍ واحد، بحالتين عقليتين حادتين بوقت واحد.. وبإشراف وحيد من امرأة وحيدة، ولم تطلب يوما أن يساعدها أحد، أيا كان. فقد كانت بإيمانٍ مريحٍ وعميقٍ بأن اللهَ يتفضلُّ عليها، ولا تريد أن تربك هذه النعمة َالربانية.
المهم.. كبُر أنس
ولما كبر وصار شابا هادئا – رغم إعاقته التي خفت نسبيا مع الزمن نتيجة رعاية وتدريب أم أنس- رأت العائلة أن يتزوج.. وهذا ما صار. ورزق الله أنس وزوجته – وهي أيضا بعقلية قليلة- ولدا.
وكان الولد أيضا بتخلف شديد، ومصاب باستسقاء الدماغ، أعنف الأمراض هتكا لأنسجة الدماغ عند الوليدين من الأطفال .. وقد هتكه بالفعل. وكانت أم أنس أول من رأى الطفل – وكالعادة- رفعت يدها للسماء وشكرت الله على فضله.
كان واضحا من البداية أن الزوجين لن يكونا قادرين على رعاية الطفل، بل إن زوجين عاديين سيلقيان عنتا شديدا في متابعة حالة طفل بمرض تعقّد وتشابك.. وما الحل؟! الحلُّ موجودٌ دائما.. أم أنس.
أخذت أم أنس الوليدَ من بداية عمره، ودخلت معه وهي امرأة تكاثرت عليها السنون والأمراض دوامة من المعاناة والتجارب لا يثبت أمامها مَن هم مِن أولي العزم والثبات من الناس.. وأم أنس مضت في الطريق العميق الوعورة وحيدة ولم تتردد لحظة حتى لتلتقط أنفاسها أو تجمع أفكارها.. وكان الطريقُ الوعرُ المؤلمُ سلسلة ًمن العمليات للطفل الصغير، وكانت أم أنس تذهب معه في كل مستشفى في أي منطقة في المملكة، وتنام بجانبه وترعاه، وتحفظ أدويته، وتساعد الممرضات في التغيير والمتابعة، وحتى رفع التقارير.. ولما كان من الصعب طبيا أن يسير مثل أترابه، وضرب اليأسُ مشرفي التدريب الفيزيائي، عزمت أم أنس أن يسير حفيدها الحبيب، وراحت تقوم بالتدريب المضني يوميا في المستشفى، ساعات بعد ساعات، أياما بعد أيام، شهورا بعد شهور. وحصلت المعجزة.. ومشى الطفل.
لم تنته ملحمة أم أنس الخيّرة.. بل إنها توها قد بدأت.
وألقاكم، شاكرا فضلكم، بعون الله الإثنين المقبل..