سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
إني أكتب لك هذا بحب.. وبعد تفكيرٍ عميق.
.. أحيي شجاعتكم وإصراركم على قضية أنت مقتنع بصحتها ولا شك، والإعجاب يا أستاذي شعور مستقل بذاته، من غير ارتباط ٍبما يعتملُ في الذهن أو الضمير من قناعة بالرأي الذي استلزمته الشجاعة من عدمها. وهنا لا يهم أن أوضِّح إن كانت آراؤك المواظبة والمتصلة حول الفتاة السعودية وطرائق وسلوكيات تعليمها أقف معها مؤيدا، أو أني أقف بعيدا في ضفةٍ أخرى.. إلا أن الإعجاب بالشجاعة والإصرار على القضية يبقى صفة من صفات الفرسان.
وأعلم يا سيدي أنك تملك أفقا واسعة من التفكير، وثقافة تراكمت عبر السنين الغنية بالعلم، والسفر، والعيش في مجتمعات خارجية، ولا شك أن هذا كوّن عقلية الأستاذ عبد الله باجبير الذي نعرفه كاتبا بازغا، وقلما ثقيلا يهز الرأي العام، أقول هذا وأنا مطمئن أنها الحقيقة، ولن يغطي الحقيقة أن أقف مع آرائك، أو أني أجدّفُ بعيدا عنها. والذي يطمئنني أن أسمح لنفسي بالتطاول لمقامكم ومحاورتكم، هو إيماني العميق بأنك تنشد المصلحة، وبالذات مصلحة الفتاة والمرأة السعودية، كما أفعل أنا إن شاء الله، وكما يود كل محب عادل بعقل وضمير واتزان.. وبعد تفكير عميق.
ويطمئنني، يا أستاذي الكبير، أنك متفتح للرأي بكل اتجاهاته، وكأنك شراعٌ مبحرٌ في أعالي البحر ترحب بالريح تصب من أي جهةٍ هبـّتْ. والأشرعة التي تستقبل كل الأرياح هي التي تبحرُ وتصل لمرافئها، والأشرعة التي لا تستقبل ريحاً، أو لا تهتم إلا بريحٍ من اتجاه واحد، فهي إما تقف حتى السكون والجمود والتلاشي في الحالة الأولى، أو أنها تصر على الإبحار في اتجاهٍ واحدٍ وقد تنتهي في عرض المحيط الشاسع تائهة، أو تصل ولكن.. لما لا تريد.
وإني أري يا سيدي أنك تصر على موضوع بعينه بمقالاتك السابقة، وتهدف بنيتك منفعة المرأة السعودية، ولن أناقش صلاح ذلك من عدمه ولكني – معتمدا على ضميركم المحب والحكيم- أتقدم لكم راجيا إعادة التأمل مرة أخرى.. وبعد تفكير عميق.
إني أرى أن المواضيع التي تتطرق لها حاليا لن تدفع حالة المرأة لدينا خطوة واحدة إلى الأمام، لأنك تجاهد في فروع تقبل النقاشَ عنيفا، وتتعرض بصورة صارخة لخطوط الحرام والحلال وتؤلب النفوسَ، ولو كانت النتائج رفعة أكيدة للمرأة ونهاية لمشاكلها لكنت من أول مقتديك، وأن التلميذ المحب أول ما يفزع في فكر أستاذه لما يتعرض مقامَهُ الفكري والعملي والاجتماعي إلى مظانٍّ موحشة، موحشة ليس للصلاحية من عدمها، ولكن لأنها تقلعكم بعيدا عن القاعدة العريضة التي تكتب لها وتعيش معها بينما أنت تريد من أعماق قلبك أن تفيدها.. وأن هذه الدعوات الحثيثة في مقالاتكم، حتى لو حصلتم عليها خالصة مخلصة، لن تنفع حالة المرأة ومشاكلها الكبرى في مجتمعنا التي هي أكبر بكثير من حصة رياضة أو طريقة ارتداء عباءة أو حجاب، هي مشاكل كبرى تهز قلب البشري الذي تنبض عروقه بالإنسانية، والعدل، ومعرفة الحق ساطعا كل السطوع، وهذه المشاكل الكبرى، لا تجر نزاعا حول الحلال والحرام، ولا تضرم أوارَ معارك حول العادات والثوابت، وإنما هي من أصل الدين وليست من فروعه، وحق لا يختلف معه إنسان يرى الحق فيستشعره، ويدرك تخوم العدل فيسعى بها وإليها.. وهي أكبر بكثير من قضايا صغيرة مثيرة للخلاف الكبير، لو وعيناها حق الوعي، واستغرقنا في دراستها واستنباط الحلول لها ( وهي حلول لا تحتاج اختراعا، بل موجودة بازغة في صلب التشريع الإسلامي، وإنما الحلول في طرائق التطبيق).
أستاذي، أسألكم بالله أيهما أهم: حالة شابة لا تمارس الرياضة، أم حالة زوجة تطرد من بيتها إلى الشارع أحيانا مع أولادها وهذا مفجع، أو من غير أولادها وهذا أشد فجاعة ووجعا؟ وأسألك بالله ما الأهم: مديرة تدور على التلميذات وتلزمهن بما تراه حول الحشمة ( سواء كانت محقة أو أسرفت في الحرص) أو حالات عشرات الآلاف من النساء اللاتي تسرق أموالهن جهارا نهارا، وتباع ممتلكاتهن جهارا نهارا، ويسرق عرقهن قطرة قطرة، مع كمية كبيرة من الترفع المكابر والغرور الفج، والأنانية السمجة، وغياب كامل لأي حق إنساني وشرعي.. ونساء كثيرات يعملن في سلك التعليم وتسرق رواتبهن، ونعرف من تعدى عليها زوجها بالضرب حتى دخلت الإنعاش لأنه منعها من العمل، مع أن أسرتها تعيش على مدخولها منفردا، والأدهي أنه عاطل ولا يعيش إلا على السرقة والنهب من راتبها. أسألكم، أستاذي، هل هذا وقت أن نتحدث عن الرياضة والمديرة، أم عن هذه المآسي الكبرى التي تهدد كيان المرأة التي أرادها الله عزيزة منيعة وحصينة؟
أستاذي، من مشاركاتي الخاصة يصلني ما تعانيه المرأة من فواجع واحتقار ومهانة واختراق لما نص الله عليه صريحا شاهقا في كتابه المحفوظ، وفي متون الأحاديث النبوية، وهي حالات تصيب الإنسان بالدوار والغثيان والإحساس المر - الشديد المرارة- إنها حكايا من الوجع الخام لو أحكيها لكم لسببت أذى للقراء المرهفين وأصحاب ضغط الدم وأمراض القلب. يا أستاذي المرأة تـُسحق وتـُحرم من حقوق صريحة لا مراء فيها ولا يختلف حولها مسلمٌ واحد، ولا يختلف حولها ضمير كوني واحد، وستجد يا أستاذي أنك تدلي دلوا في بئر عميق وبعيد، ولن نخرج منه إلا بقطرة ماء، أو قطرة غثاء- لا أعلم!- بينما عندنا قريب أكبر وأعذب المصادر، ألا ننهل منه؟!
أحس واجبا علي يا أستاذي الكبير، أن أسألكم أن تسخر قلمكم لآلاف مؤلفة من النساء يُجرم بحقـِّهن إجراما وحشيا، تخطيا سافرا ومقيتا على إضاءات الحق الفسيح والسامي الذي كفله الله للمرأة لتكون كريمة، وحرة، وسعيدة، لتنشئ أجيالا كريمة وحرة، وسعيدة..
المرأة يا أستاذي مجردة من كل سلاح في مجتمعنا، ومتى أصابتها مصيبة إن لم يقف معها زوجٌ رءوفٌ، أو أبٌ عطوفٌ، أو أخٌ حادبٌ فلن يقف معها أحد.. لن ينصفها أحد، ولا الطريق الذي سترمى إليه.
فلنطالب يا أستاذي بما هو حق، وأحق.. وإن رأيت أن تلك النساء اللاتي يـُقهـَرنَ في الزواج والحياة والأبناء والعيش، أقل أهمية من طالبة تلعب حصة رياضة، أو مديرة تدور على فتيات للتأكد من وضع عباءة.. فلتمض بطريقك، ولكني أسألكم يا أستاذي الكريم والكبير والعطوف أن لا تفعل.. إلا بعد تفكير عميق.
وفي جدة قبل أيام، بصالون الرجل الاجتماعي الفذ، محمد سعيد الطيب، حييتُ شجاعتك علنا، وكان الرجل الطيب الناجح الشيخ فتيحي بقربك وأنا أضع يدي على كتفك، وأقول إن فيك جمال..
وإني ما زلت أقول إن جمالـَك الحقيقي لم يره القراءُ بعد.. وإني ادعوك أن تتأمل، أعانك الله، وبحق تلمذتي عليك، أن تتملى كل كلمة كتبتها، فإن كان العمل بها مفيدا وصحيحا فلن يؤكد هذا إلا سموقَ مقامك، وإن رأيت فيه ارتباكا وخللا.. فأرجو توجيهي.
وتأكد أني ما كتبت لك هذا إلا حبا بك.. وبعد تفكيرٍ عميق!