سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. أفكر في هذا المجتمع، وكلنا نفكر فيه وبمشاكله. ومشاكل المجتمع كثيرة ومتفاقمة، وهي تكثر كل يوم، وتزداد تفاقما كل يوم. ولا ننفي أنه توجد أجهزة للتصدي "لبعض" مشاكلنا الاجتماعية، التي تنخر عظمَ المجتمع، ولكنها أجهزة محدودة الفاعلية، وبعضها مقيد بالقيد الرسمي والإجرائي، والنظرة الحسيرة في البند والنظام وعقارب الساعة. وبعض مسئولي الأجهزة مهتمون وجادون، ولكنهم يعانون من أمرين يقضان مضاجعهم، وهو الروتين الإجرائي الذي يربطهم بسلسلة من العقد التي لا تتيح لخيالهم وجهدهم وبرامجهم للانطلاق، ومن حجم المشاكل التي من الصعب حلها، أو حتى حلّ القليل منها، مثل من يقف ومعه كأس ماء ويريد إطفاء حريق متطاير الشرر، فالحل صحيح، ولكن كمية الماء غير كافية. وهناك مشاكل خفية تحت السطح ولا وجود حقيقيا لأجهزة للتصدي لها، أما أننا لا نعلم بها، أو لا نريد أن نعلم بها ـ وهذا أرجح- مادامت تحت السطح.. ناسين أو متناسين أن الأخطارَ الكبرى هي التي تمور تحت السطح.. وفي الطبيعة، اسأل الزلازل!
والأهم أن طاقتنا محدودة جدا في البحث والاستقصاء.. وهذا يوصلني إلى موضوع اليوم.
ولم أجد الحلَّ الكبيرَ إلا في الجامعات والمدارس، ولم يكن هذا الحل اختراعا صرفا مسجلا باسمي، ولا هو حتى تطويرا لفكرة، ولكنه موجود في كثير من المجتمعات الراقية – وأرجو لطف عنايتك أني أعني بـ "المجتمعات الراقية" ليس بالضرورة المتقدمة صناعيا، ولكن تلك المجتمعات التي تعي مشكلاتها، وتـُعنى بكل سبل البحث والتقصي لحلها- . وأزيد أنه لم يكن لي حتى فضل المبادرة في التفكير، إلا وأنا أسير في سوقٍ شعبي في المنامة بالبحرين واعترضني فتية ٌصغارٌ، وكل منهم يحمل استمارة إحصاءٍ وبحث، ويريدون تقصي المستوى العمري في منطقتهم التي تكثر فيها القراءة.. ولمع المصباحُ في رأسي.
بدأت أفكر في كامل فلسفة التعليم لدينا ـ إن كان هناك فعلا فلسفة قائمة ومتكاملة- ووجدت أننا في المدارس والجامعات ـ خصوصا في الجامعات- نعمد إلى عملية التدريس أكثر من عملية التعليم. العمود الفقري والشبكة العصبية في الجامعات والمدارس هي المهمة التعليمية، بينما السائد هو النهج التدريسي. التدريسُ عملية آلية بحتة، أي أنك تدخل الفصل وتلقي ما عندك كمدرس أو محاضر، ولا يهم إن كان الفصلُ مليئا بالتلاميذ، أو مليئا بالكراسي الفارغة!
التعليم قضية تفاعلية بين العقول وبين النفوس. إنه تمازجٌ عقليٌّ وعصبيٌّ ونفسيٌّ معا.. بدونه لا تصح عملية التعليم. ولا أجد أكبر مثالٍ على قصر القضية التعليمية لدينا من ظاهرتين: - ظاهرة ضعف العمل المعملي والتطبيقي خصوصا في المناهج العلمية (وستجد مختبراتٍ مقفلة ًويعلو أجهزتها الغبار، أو تعطلها). والظاهرة الأخرى، انحباسُ التلميذ في الجامعة والمدارس بين الجدران المدرسية جسديا وعقليا ونفسيا فلا يعي الدائرة الكبرى خارج أسوار المدرسة والجامعة وهي المجتمع برمته.. بناسه، ومشاكله، وطباعه، وعاداته. ونخص هنا العلوم الإنسانية.
والذي يهمني هنا الظاهرة الثانية، وبالذات في قضية البحث والتقصي.
وحتى نربط الأفكار، فإن هناك قصورا رسميا في عمليتي البحث والتقصي لمشاكل المجتمع، ولذا نفتقر للمعلومات الأساسية الصحيحة والدقيقة، والسبب نوهنا عنه. والحلُّ في إيجاد معاونة كبرى، ولا تقدر بثمن، في خروج الطلبة للشارع ليبحثون ويتقصون.. هذا في الاستفادة الرسمية والمجتمعية.
ثم إن تشجيع التلاميذ على الخروج بأوراقهم سيربطهم أولا بمجتمعهم ومشاكل ومجتمعهم، فتنمو عندهم ملكـَتا العقلِ والتجربةِ الواقعيتان، وهذا مهم جدا لإنضاج الخريجين للعمل، ولإنشاء العائلة، أي أن يخرج رجلا يعي المسئولية، وسيزيد من إمكاناتهم العقلية لتلقي النهج التعليمي الصحيح والفعّال والمفيد والمنتج.. فهم سيتعلمون كيف يعدون أسئلة التقصي والإحصاء، وسيعرفون قوانينها واقعيا لإشرافهم على إعداد مذكرة أو استمارة البحث، ولأنهم سيصبون المعلومات التي خرجوا بها في تقارير تقدم للمعلمين أو المحاضرين.. ثم إنهم سيعينوننا على تقصي جذر المشكلة المحددة بقطر دائرة بمساحة المجتمع كاملا، وهو يكاد يستحيل على الموظفين الرسميين، وسيوفر لنا خبراءً من وسط المشكلة الواقعية أثرا وإحساسا ووضوحا وقربا للمصدر.. وسيتحرر الطلابُ من إسار الجو الفصلي الضيق، ليجعل عقولهم وأنفسهم بحجم الواقع خارجه.. وهذا أرسخ أرضية تقوم عليها القضية التعليمية.
اجتماعيا، سيساعدنا الطلابُ بصورة تفوق أحسن توقعاتنا. سيخرج الصغارُ منظمين لتحري مشاكل البيوت ودخولهم مثلا لتحديد شرائح المجتمع غنىً ووسطاً وفقراً، وسيخرج طلابُ الإدارة، في مسح الكفاءة الإدارية في المؤسسات والمنشآت، وسيخرج طلابُ العلوم الاجتماعية لتقصي حالات آلاف العائلات بعد أزمة الأسهم (مثلا!) وسيخرج طلاب علم النفس لتحري المشاكل النفسية ليس في المستشفيات والعيادات بل حتى في البيوت، ويصفون الحالات وطبيعتها وأسبابها.. وسيخرج طلاب الاقتصاد ليقيسوا أداء الأفراد الاستهلاكي بعد تخفيض أسعار الوقود، وأداء التجار أيضا بأكبر مسح من نوعه.. ويخرج طلاب الصيدلة في مسح كبير فيما يتعلق بالأدوية وحجم مبيعاتها، وطرق صرفها والعلاقة بين الطبيب وشركة الدواء والصيدلية.. والأمثلة بلا حد. والفكرة أظن أنها وصلت.
إني أجد هذا أمرا مهما، بل استراتيجيا، ولا أدعو له بإصرار لأنه رأيي أو من تلافيف مخي، ولكنه لأنه موجود.. موجود.
بعد أن أجبت على معلومات الصبي "عيسى" في سوق المنامة، أعطاني بطاقة، وقال يمكنك الاتصال بالمدرسة بعد أسبوع، لتعرف نتيجة البحث والتقصي لمهمتنا.. سأفعل يا عيسى!