سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. إن التعليمَ الجامعي مفيد للفرد ومفيد للأمة. إن التعليم الجامعي الحقيقي والمتقدم والمتطور، أو القابل للتطور، هو الذي سيأخذ البلادَ إلى مكان أكثر تقدما في الصفوف العالمية. إن التعليم والأشخاص المزودين بالمهارات الكفؤة من المكونات المهمة في المجتمعات التي تصبو إلى التفتح والتقدم .. العلم الصحيح والمناسب للأمة هو الذي يقود النمو الاقتصادي للأمم، وهذا ما حدث ويحدث في تايوان وسنغافورة وماليزيا وكوريا والهند والصين.. والحبل على الجرار.
إذن صار التعليم الجامعي (وهناك من يفضل أن يسميه المعرفة Knowledge) هو الأصل الحقيقي للحصول على الوظائف الجيدة بالنسبة للأفراد، أو قيادة الحياة المهنية بالكامل. وعندما تقرأ لأبي الإدارة الحديثة الذي غادر عالمنا قبل فترة، المعلم الأشهر "بيتر دركر"، فإنك ستجد أن هذه الجملة تتكرر في كتبه وفي مقالاته المميزة في مجلات الإدارة المتخصصة وهي " يجب التأكيد على الحاجة المستمرة للتعليم المستمر". أي أن التعليم مستمر ولا يعنى بمسألة العمر مادام أن الفرد يروم تطورا، وهنا شيء آخر لا تقرأه في جملة "دركر" ولكن تدركه مشعاً بين الكلمات، وهو أن التعليم الجامعي يجب أن يكون جديرا ومتطورا ليعرف المرء، أكيدا، أنه يطوره ويقدمه دفعات في تخصصه المهني، سواء أكان يأخذ الجامعة في مساره الأكاديمي المعتاد، أم بعد أن مضت سنوات من العمر، أو لإعادة التأهيل والمهارة.. ولن يستفيد خريج سابق من العودة للتعليم الجامعي إن لم يكن هذا العلمُ قد تطور تطورا كبيرا لدرجة أنه سيكون جاهلا لو بقي على ما تعلمه من عقود، ليست العودة للجامعة بشكل أكاديمي منتظم أو إعادة السنوات الخمس أو الأربع، ولكن إتاحة الممر المرن والوسيلة الممكنة لكي يكون التعليم مستمرا.. أو أن تكون المعرفة عملية مستمرة ومتطورة، والحقيقة أنه لا معنى للمعرفة إن لم تتطور وتواكب.
وبينما نحن نؤكد وندعو إلى مزيد من الجامعات، ولكن إذا حسبنا هذا العدد الضخم والمتزايد من الشباب الذي تأكل نسبته معظم النسبة المئوية للسكان، وأضفنا إليهم مسألة تطبيق آليات التعلم المستمر فإنه مهما أنشأنا من الجامعات وبالطريقة التعليمية التقليدية فلن يكون كافيا.. أبدا. إذن لا بد أن هناك طريقة أخرى. أما الطريقة الأخرى فنحن هنا لا نخترعها، ولا حتى نعيد اكتشافها، إنما المناداة بضرورة وفائدة أهمية تطبيقها.. إنها جامعات التعلم عن بعد.. المعرفة عن بعد.
كلنا يعلم أن التعليم الجامعي في أزمة، وهو في أزمة ليس فقط لقصور الجامعات وقلة عددها ولكن لأنها تفقد مرونة التوسع والتطور، وعفوا .. قلة الخيال. ستجد من يأتيك ويقول لك إن الذي يمنع الخيال والتطور ليس نحن، ولكنا نعيش في بيئة تضغط عليها البيروقراطية والأنظمة الجافة.. وهذا كلام لا يقبله المتـَحـَدّون وقائدو التطور في المجتمعات، لأن عقل الرائد المتطور هو التغلب على العقبات، وليس البكاء والنحيب أمامها، وبما أنها حقيقة وموجودة فيجب أن نفكر في مواجهتها، إن لم يكن بزحزحتها أو قص شحومها فإذن بتجاوزها من مسار آخر، أو القفز فوقها بارتفاع آخر.. أليست السماء مفتوحة؟.. وكذلك المعرفة.
ونرى أن جوا خانقا كهذا بدلا أن ينجح في دفعنا لليأس أو الإحباط وهو موجود كغول يجثم على حياتنا الأكاديمية (حقيقة مؤسفة!) هو الذي يجب أن يكون الحافز الأساسي لرواد المعرفة ليتلمسوا الطرق الأخرى، وهنا لا نرى أن وسيلة أفصل وأنجع وأكثر مرونة وأنسب للعصر، وأجدى في حل أزمة التعليم الجامعي من آليات التعليم عن بعد كوسيلة إبداعية وقابلة للتطور والمرونة والتحرر من القيد البيروقراطي والمكاني، ومن ناحية اقتصادية عالية التأثير جانبها المالي في انخفاض تكلفتها وبصورة لا تقارن لشساعة مسافة التكلفة بينها وبين التعليم الجامعي المكاني التقليدي.
إن التعليم عن بعد – في رأيي- سيقود إلى سهولة تقويض البقرات المقدسة في التعليم الجامعي المنهجي التقليدي بالجامعات المكانية قياسا بصعوباتها الكأداء قياسا ومقارنة. وسيؤثر دراماتيكيا في وسائل التعليم والتعلم وفي سلوك المعلمين أنفسهم، مجددا كامل النظرة العلمية والسلوكية والتعليمية .. هذه التجديدُ قد يؤدي في النهاية، فيما أراه منطقيا، كافيا لحل أزمة التعليم الجامعي المكاني، وقد تكون مخرجاته أفضل وأكبر واقعية في النواحي التطبيقية من التعليم التقليدي... وشيء آخر تفرضه طبيعة التعلم عن بعد، وهو فتح مصراعي بوابتين هما أهم بوابتي هذا العصر، ونقصد أولا التقنية لأن هذا النوع من تلقي المعرفة سيعتمد كثيرا على التواصل والاتصال التقني، وعنصر العالمية لأن الجامعات المفتوحة عالم مفتوح في فضاء كوني.. إن التعليم الجامعي عن بعد هو الحل الأمثل لنا..بل يتيح عنصرا آخر للأمة فوق الاقتصاد الهائل في التكلفة، وفوق فك خناق الأزمة الجامعية، وهو توظيف ساعات عمل منتجة مع ساعات الدراسة خصوصا لأولئك الذين يعملون فعلا ويلتحقون بالتعلم عن بعد..
الذي نحتاج، إن كانت آلية التعليم عن بعد مقنعة، وهي لي أكثر من مجرد اقتناع، عقول تقفز فوق التخاذل أمام الواقع البيروقراطي، والتيبس النظامي الحالي..
الشجاعة في مواجهة الغول!