مجتمعُنا بين الصدع ِالظاهر والصدع ِالخفي

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. أنا ممن أعطاهم الله موهبة محدودة في الرسم، ولكني لم أنمِّ هذه الهواية لأسباب ليس هنا مجالها، ولكني أذكر أشياءَ، وقصصَا، ومناسباتٍ، وظروفا، تعيد دائما شغفي وتعلقي بالرسم. لذا دأبتُ من صغري على قراءة الكتب التي تحكي عن قصص حياة مشاهير الرسامين ومازلت أملك تلك الكتب من الزمن الباكر. فرونوار، جاجان، دافنشي، أنجلو، فان كوخ، جمال قطب، ودالي، وبيكاسو ليسوا مجرد أسماء بالنسبة لي ولكنهم أشخاص أعرفهم، وعشت معهم في صروف حياتهم، ويقودونني بشكل غامض إلى قرارات في حياتي قيادة خفية. وفي العصر الحديث كان هناك فنان إيطالي اسمه "بييترو أنيجوني" موهوب، وشديد الطرافة، تألق في الخمسينيات من القرن الفائت، وفي ما يحكيه، يذكر قصة طريفة لواحدة من أهم لوحاته.. فيقول:

"كان ذلك عام 1952، حين أراد صاحب العقار الذي فيه أستأجر مرسمي في فرنسا عرضه للبيع. ولقد أحببت هذا المرسم، وتعودت عليه، وصادقت كل قطعة حصى به لسنوات، فصُعـُبَ علي أن يُباع هذا العقار، ويذهب لمستثمر عقاري قد يحرمني من مرسمي، أو يعيد استخدام المبنى بطريقة أو بأخرى. وقلت لنفسي، لو كانت هناك عدة شقوق وصدوع غائرة في الجدران، فإن من شأن هذا جعل بيع المبنى عملية بالغة الصعوبة. وباشرتُ لا ألوي في رسم الشقوق والصدوع بإحداثات واقعية وانطباعية معا، ثم فعلت فعلتي الكبرى، ورسمت بواقعية مريرة صدعا عميقا، غائرا، عريضا، مريعا، يمتد من سقف المبنى إلى إطار النافذة.. أما النتيجة فقد فاقت كل توقعاتي فلمدة 18 شهرا أتى المبنى كثيرٌ من الشارين المحتملين وغادروا من غير أن يلتفتوا ولا مرة واحدة، خوفا من أن يسقط عليهم المبنى!.. لو قيل لي ما جوهرة كل لوحاتك؟ لقلت: تلك الصدوع التي رسمتها على جدران ذاك المبنى".

وهذه حالة تذكرني بواقع نعيشه، فتجد أن مشاكلنا بلا شك كثيرة، وعندنا بطالة وهذا صحيح، وعندنا جريمة، وهذا صحيح، وعندنا فقر وهذا صحيح، وعندنا غضب ونقمة، وهذا صحيح، وعندنا من يقتلون كل خلية حية في أجسادهم بحثا عن الحلول وخصوصا على الأصعدة الرسمية، وهذا صحيح.. ولكننا في النهاية نلوم صدوعا وهمية على جدار صلد. خذ مثلا مسألة المناهج، أكثر من جهة تلوم المناهج بأنها وراء كل خطيئة، ولا يمتنع البعض من أن يتهم المناهج بأنها هي السبب في خروج القاعدة، وخروج المذاهب التكفيرية، وتبارك هذه الحملة إشارات وضغوطات، وإقناعات تأتي من الخارج، فنبلعها هنا نحن، إما من فرط التوجس، وإما من فرط الإعجاب والأخذ بالقدوة.. وأنا أرى أنه رُسم لنا هنا صدعٌ عميقٌ وغائرٌ في جدار ثابت، فصدقنا الصدع الوهمي، وكذبنا الجدار الراسخ.. إنه الإتقان في بيع الوهم، كما أتقن الرسام الإيطالي رسم الوهم. لأن المناهج لا تعدو أنها نصوص حرفية وجدت قبل وجودنا كلنا، وما أحدثت في العالم إرباكا، وإن كانوا يتكلمون عن مناهج دينية (وهذا بالفعل ما عنه يتكلمون، ويضعون عليه جل اللوم)، فإنه مرت أزمان على أجيال قبلنا لم تدرس إلا مناهج دينية لا غير، ولم تورث كل هذا الدم والغضب والوحشية.. ولكن هناك شيئا آخر، وهو الصدع ُ الخفي الذي لا يُرى ونحن عنه من الغافلين.. فالمنهج الواضح هو النصوص الموضوعة، ولكن المنهج الخفي هو كيف ينقله المدرس إلى الطلبة، فنحن درسنا أستاذ متسامح في بداياتنا وهو الأستاذ سلطان البنعلي، يرحمه الله، علمنا شيئا واحدا وجعلنا مطمئنين كل حياتنا، وهو أن الإيمان في الصدور.. وليس في المظهر ولا في المغالبة. وهنك ناس من طبيعتهم الحماسة، أو الغضب، أو الكره، أو ضمن برنامج آخر، فتـُفسَّر النصوص بطرقٍ أخرى من تصورات طبائعهم، وهذا هو المنهج الخفي.. أو إن أحببت، الصدعُ الخفي!

في معظم مشاكلنا الأخرى نحن لا نذهب إلى منبع وأصل المشاكل، وإنما ندور حول المسارب والجداول، ونحاول إعادة الماء أو نزحه متغاضين تماما عن التحكم في المنبع.. لذا البطالة تـُحَل بآلية صحيحة في الموقع غير الصحيح، أو في الموقع الصحيح بآلية خاطئة، وكذا الفقر, وكذا غضب الأجيال الطالعة.. لا نذهب إلى المنبع، أي أصل منشأ كل الأعراض التي نواجهها من غير أن نستأصلها. وأترككم مع قصة أخرى تشرح المقصود..

ضاع لواحد من الناس قرش في زقاق، ولأن الزقاق مظلم، ذهب إلى موقع آخر فيه نور يأتي من مصباح، وراح يبحث عن القرش الضائع..

.. هل وجد القرش؟ لا؟!.. إذن، أنتم تعلمون لماذا؟!