سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
..الدولة، حينما تأملتُ في تركيب الجسد البشري وأدوار أجزائه الحيوية، هي مثل المنظومة الحيوية الإنسانية في كثيرٍ من الأدوار، وما يصيبه من أمراض وعلل، وما يجري فيه ومنه وهو طليق الصحة مكتمل الملَــَكات. وبذا، كما أن درس التشريح يعنى بالجسد الإنساني بإجماله العام ولا يقتصر على شخص أو جسدٍ بعينه، فكذا مقارنتنا هنا أيضا، هي مسحٌ لهيكل أي أمة بدون تحديد دولةٍ بعينها، وإن أي تشابه قد يكون على بلاد بعينها، فأرجو من قرائي الكرام ألا يدققوا في ذلك، أو يدورُ بهم الفكرُ لتضييق الرؤية على أي دولة بذاتها.. ولو تشابهت صفة أو حالة فهي كما تتشابه عضلات يد الإنسان عندك أو عند زميلك الأرضي في جواتيمالا.. لا فرق.
أول أعضاء الجسد الإنساني المواجه للخارج مباشرة هو الجلد، أكبر أعضاء جسد الإنسان على الإطلاق. الجلد هو حامينا الأول، وهو في الدولة مثل التخوم التي تعطي للدولة استقلالها وسيادتها وكينونتها وقوتها على أن تكون مهيكلة أمام العالم، وأن التنازل عن أي جزء من التخوم لأي سبب من الأسباب إنما هو قطع من هذا الجلد الذي يغطي الجسدَ ويمنع أول هبوب رياح الأمراض، فيتركه جرحا لزغا مكشوفا عرضة لذباب وجراثيم وطفيليات الأرض. كما أن الجلدَ يحمي أعضاءَ الجسد الخارجية من الجفاف ويصدّ البكتيريا الضارة، مثل حرس الحدود الذي يجب أن يكون يقظا على التخوم فيمنع عن مناطق البلاد الداخلية النزفَ حتى الجفاف لو ترك جزءا ولو يسيرا من الحدود بلا حراسة، أو بحراسةٍ رمداء، كما من واجبه ومسؤوليته أن يمنع التسربات والتهريبات الضارة وهي هنا مثل البكتيريا والطفيليات، لأن الاختراقات في "التجارة التحت، وفوق القانونية" هي عبارة إما عن السلاح الذي يدخل في مناطقنا الحيوية فيهدد سلامتنا واقتصادنا، وحاضرنا ومستقبلنا، أو المخدرات وعقاقير الهلوسة والذهان التي متى تسربت في الداخل دوخت سكان الأمة وأذهلتهم.. وقتلتهم، حتى ولو كانوا أحياء يتنفسون. ودرس آخر: هو أن أي تسرب ضار عبر الجلد ( الحدود) سيضر الأعضاء الداخلية بالتأكيد.. وسيكون المتضرر أيضا.. الجلد ذاته!
ثم هناك خلايا الجسم وهي التي تتكفل بتنفيذ العديد من المهام المتنوعة في الجسد البشري ليبقى هذا الجسدُ حيا، مثل نقل الأكسجين حول الجسد، ومراقبة وإدارة وصيانة الإمداد بالطاقة والتخلص من الفضلات. يعني أن في الدولة، حسب تنظيمها الاستراتيجي في سيادة دور الدولة أو غلبة المؤسسة المدنية، ونأخذ المثال الأول في سيادة دور الدولة، وهو النموذج الأعم في الأرض. فتكون الإدارات الحكومية بأنواعها وفروعها وتخصصاتها ومسؤولياتها هي الخلايا التي تبقي نشاط الدولة حيا نضرا، أو تفسُدُ هذه الإدارات، أو بعضها، فيتهافت الجسدُ من وهانة الخيبة بأداء الإدارات والمكاتب الحكومية، فتنسحبُ النضارةُ، وتدب الحلاكة، ويعم الانطفاء، فيثقل العمل ويترهل الجسد وتتسرب طاقاته فيصيرا فيلا بلا طاقة لا يتحرك، ولا يستطيع أحد حمله لتشجيعه على الحركة. وقد انتهت دولٌ اقتصاديا واجتماعيا بفعل رداءة أدورا المكاتب العامة، ووصل بعضها إلى حالة الفالج الذي لا يعالج.. إلا أن للخلايا في الجسد قوة إعجازية حيوية للتجدد وإعادة البناء متى استعادت عافية أدائها، أو بدأت بجد لا يكل محاولة ذلك. الأمر إذن موكولٌ للخلايا لإصلاح ما أفسدته أو ساهمت في إفساده.. أو صيانة إمدادها الحيوي الناجع والعمل على بناء المزيد.
.. ثم نظام الدورة الدموية، ومهمته نقل الدم حول كل أنحاء الجسم الكبيرة والصغيرة، حتى المتناهية في الصغر، القريبة والوسطى والبعيدة.. حتى المتناهية في البُعد، إن أي نقصٍ إمداديٍّ لأي ناحيةٍ في الجسم تعرّضها للغرغرينا ثم البتر. وفي الدولة يجب أن تصل دورة الحياة بجملتها من التعليم والصحة والتجهيزات الأساسية وفرص الأعمال والنماء إلى كل أطراف الدولة مهما كبرت، والأهم أيضا.. مهما صغرت. وهنا خطأ كثيرا ما يعيثُ في الدول: الاهتمامُ بالحواضر الكبرى، وإهمال الأرياف، والبوادي والنجوع، ولا مبرر لذلك، حتى لو كان هناك مبررات مقبولة لأن النتيجة واحدة في النهاية، صحيح أن الدماء يجب أن تصل الرئة والكبد وهنا هي كخدمات العاصمة والمدن الكبرى، ولكن أي مكان مهما نأى وصغر سيتخمر صديدا ثم يقع أو ينفصل أو يلتقطه لاقط بفعل عوامل حيوية لا يمكن صدها إلا بزيادة تجريع الجزء البعيد بالإمداد. وأن سقوط طرف أصبع في نهاية الجسد يعني أن الجسد لم يعد مكتملا إلى الأبد، واحتمالية استشراء المرض من المناطق الصغيرة النائية حتى أكبر الأعضاء واردة مثل سريان النار في الحطب اليابس.
والذي يضخ الدمَ في الجسد الإنساني عضلة مهمة، أو الأهم، وهي عضلة القلب. فالقلبُ يضخ الدمَ ثم تقوم الأوردة والشرايينُ بنقل الدم. والدمُ أولا ينتقل عن طريق العروق الكبرى ثم ينتشر إلى أصغر الشعيرات الدموية التي لا ترى بالعين المجردة.. بالعدل والقسطاط، وأمر حيوي هو كفاية الإمداد بالدم حسب الحاجة والدور. وتأخذ وزارة المالية هنا دور القلب، والقلب إن صادته علة من العلل، أو تجمع الكلس والشحوم على مساري إجراءاته فإن علة القلب ستنتقل بالضرورة والتتابع ليتداعى الجسد.. لعبة إسقاط حجر الدومينو الحتمية. إن الصمام الإمدادي في وزارات المالية هي علة العلل في جسد الدولة متى كان القلب يضنّ بالدم، أو تهترئ صماماته بلا إصلاح، أو لا يسمح بدخول الأكسجين وهي المعلومات المهمة والمثبتة التي تتقدم بها للوزارة العروق الكبرى وهي الوزارات، ثم إن الوزارات متى ضنـّت في إمداد فروعها بالمال اللازم لمشاريعها أو إدارته عن بعد من المواقع، فإن أجزاء الوزارة تتداعي وتتساقط مثل ترنح الأسنان، التي لا تصلها الدماء، من اللثة.. فتنتشر رائحةُ النخرِ في الأجواء.
وللموضوع بقية.. حتى نصل إلى الدماغ في الجسد البشري، ومن يأخذ دور الدماغ في الدولة؟
انتظروا، أو خمنوا!