سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
* تكريس: إلى أم عبد الرزاق التي هاتفتني من الرياض، بعد أن وصلت لرقمي بمحاولات بهلوانية، كما قالت، وطالبتني بنشر هذه المقالة في "الاقتصادية"، ليعم نفعها، كما اقترحت، ولتحفظها لابنها عبد الرزاق الذي يبلغ عمره 30 يوما.. عسى أن يكون عبد الرزاق ابنا بارا، أنشرها مع كل امتناني:
.. ووالدتي بعيدة في إقامتها الرمضانية في مكة، وأنا بعيد.
أمي:
قرأت اليوم فيما قرأت رسالة الإمام ابن تيمية لأمه وهو في الغربة، وقد أشجتني الرسالة، وهزت مشاعري عذوبة الكلمات، وجرى في حسي رفعة الحب وشعلة الشوق.. وإمامنا العظيم لا أساوي أمامه ولا أقارن، إلا كما تقارن قطرة الماء بالبحر، أو ذرة الرمل بالبيداء، أو غبارة لقاح في الهواء مع امتداد البساتين. ولكن يا أمي تبقى أمه، وكل أم من أعظم رموز الإنسانية، لأنهن نهر الحياة.
أمي:
لقد علمتني دون أن تكوني لي معلمة، وقد وعظتني دون أن تقومي بدور الواعظ، وكنتِ القدوة والمثال، وكنتِ دوماً المرجع والمآل، من صغري الباكر، إلى يومي الحاضر.. عندما أهرب من أي شيء إنما إليك، وعندما احتمي من أي شيء إنما بك، وأنت دائما تقولين لي: إن الذي نلجأ إليه يا ولدي هو الله، وإن الذي يحمينا يا ولدي هو الله.. ألا أعرف ذلك؟ إني أعرف بالفطرة واليقين، ولكنه منك يصب في قلبي، ثم يبقى نبعا سلسبيلا في القلب.
أمي:
أول من علمني ألا أخاف وأواجه كل توقعات الحياة بشجاعة إنما أنت. كنت وأنا صغير تصورين لي الأشياء التي في مخيلتي لكي تكون دافعا وحافزا، ولم تقولي لي يوما أنت واهم، أو هي خيالات أطفال، أو نم يا حبيبي فأنت تحلم.. لقد كنت ببراعة الموجه وحدبه توظفين أحلامي وتهيؤاتي فـُرَصا لبناء أشياء في شخصيتي، حتى يمتلئ الفراغ بالجوهر لا الحشو.. إن أي جوهر نزير في شخصيتي إنما من صياغتك، وإن أي حشو كثير في شخصيتي فإنما هو من بنيتي وتكويني.
تذكرين يا أمي أني أيقظتك صغيرا مفزوعا لأخبرك أني رأيت لصا يطل علي من النافذة من خلال الليل، وكان من كوابيس النوم. لم تهدئي روعي، أو تعيديني للسرير مؤكدة أنه كان حلما سيزول، إنما أتذكر الموقف كأنه اللحظة، لأني أستعين به متى غلبني الخوف، وخفتُ أن تتسرب مني دماءُ الجسارة. نفضتِ اللحافَ من عليكِ، وقمتِ جادة جازمة، وكان أبي غائبا، وتناولتِ الكشّافَ ثم قلتِ لي: "هيا نخرج لنطرد اللص فأنا خائفة وأنت رجل البيت، ومتى رأى اللصُّ رجلَ البيت فإنه يهرب".. وفعلا خرجنا معاً، والنتيجة هرب اللص الذي توهمت.. ولم يعد أبدا!
أتذكر ذلك كل يوم وكل موقف، كم ترددت في نشر مقال لأني شعرت أن به ما قد يعرضني لسوط الخوف، فآخذ كشافك لأطرد لص التخوف وأجاهد كي ينشر، لأنك علمتني أن الناس قد يسامحون خطأي، ولكنهم لن يغفروا كذبي وزيفي. علمتني دوما أن أومن أن الناسَ أذكى مني فلا يجب أن أتحايل عليهم، وهذا فعلا ما اكتشفت وتحققت، وهذا فعلا ما فعلت. فإن جاملت أحدا فأجامل من أقدر عليه ويقدر علي، وإن خرجت مني كلمةُ حقٍّ فهي لمن هو أكبر مني وأقوى لعل الكلمة تنير، لأن الكبيرَ لا يحتاج التزلفَ قدر حاجته للكشف.. وأتذكر كما قلتِ إن اللهَ هو الحامي، وهو الملجأ. اليوم دائما تتهرب مني شجاعتي فأتذكرك. إن أي إقدام إنما كسبته منك، وإن أي خذلانٍ وجبنٍ وتراجعٍ فإنما هو من بنيتي وتكويني.
أمي:
.. جنبتني وأنا صغير أخطاء قد تأسرني وأنا كبير، وكنتِ دوما حريصة على أن تعلمي عن أي شيء نرتكبه، وكنت تقولين حين نستغرب من ذلك: "إن الأمَّ تدري"، فصدقنا. نسافر اليوم الأرضَ، ونختلط مع فئات الناس، ونتعرض لكل مغرٍ من المغريات، ولكن عند إأي إغواءٍ أو غيبة عقل تنتفضُ من ذاكرتنا الباطنة: "الأم تدري"، فندير ظهورنا إلى الخطأ والغواية، وضحكة الطفل الصغير تلمع في شفاهنا. إن أي استقامة بحسابها القليل في مسلكي وأخلاقي فهي من غرسك، وإن أي سوء بحساب غير معلوم في مسلكي وأخلاقي إنما هو من بنيتي وتكويني.
أمي:
وأنت مَنْ أخبرنا أن المدرسين ومدير المدرسة يكتبون إليك التقارير فصدقنا واجتهدنا. وعندما شكوت ذات ليلة من درس الحساب أخذت كتابي وقرأته كاملا في ليلة واحدة ثم أعدت الأرقام زرعا في رأسي.. فتعلمتُ منك دون كلمة منكِ، أننا لا نولد كلنا موهوبين ولكن علينا أن نعمل ونجد أكثر، لا نولد كلنا عباقرة، ولكن أن نبني طريقا نحو التفوق.. إن أي تفوق قليل كسبته في الحياة إنما من زرعك الرقم الأول في دماغ ذاك الصغير، وإن إخفاقاتي الكثيرة إنما هي من بنيتي وتكويني.
وكما قال ابن تيمية لأمه، وكل ابن لابد أن تأتي لحظة من لحظات حياته ليقول.. فها أنا أقول: "يا أمي لو حملتنا الطيورُ لسرنا إليكِ"..