أعيدوا ضبط الساعة .. أنتم في الرياض!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. أبدأ بطرفة، والطرفة من ثلاثة مشاهد:

المشهد الأول: رجلٌ عاد طبيبا يشكو من ظهره، ولما سأله الطبيب عن السبب، قال إنه دخل بيته فشعر أن لصاً في البيت، بحث عنه، ولما وجد باب الشرفة مفتوحا أطل من فوقها ورأى رجلا يجري هاربا، فذهب إلى الثلاجة وحملها وألقاها على الرجل، لذا فإن ظهره يؤلمه.

المشهد الثاني: عاد رجلٌ طبيبا يشكو من آلام في ظهره، فسأله الطبيب عن السبب فأفاد أنه وضع منبه الساعة على وقت الاستيقاظ للخروج للعمل، ولكن تعطلت الساعة، فاستيقظ متأخرا، فارتدى ملابسه وراح يجري للعمل، حينما وقعت ثلاجة على ظهره.

المشهد الثالث: عاد رجل طبيبا يشكو من آلام في ظهره، وسأله الطبيب عن السبب: فقال أني دخلت في شقة ثم شعر بي صاحبها، فاختبأت في الثلاجة التي وقعت من الشرفة!

على أن الذي أثار موضوع اليوم ليست طرفة آلام الظهر، وإنما ما قرأته في مجلة يقرأها نصف العالم وقد تكون أشهر مجلة على الإطلاق، وهي لا تعنى بمواضيع محددة، ولا تأخذ رأيا ولا موقفا، ولكنها عندما تنقل شيئا، وهذا جل ما تعمله، فإنها تحرص على الدقة المتناهية في النقل.. وأعني المجلة الأشهر "الريدرز دايجست" التي تطبع بأكثر من عشرين لغة، وكانت تظهر منها النسخة العربية تحت اسم"المختار"، ثم انقطعت. تبلغ دقة المجلة كما يقول محررها بأن تتحرى عن تهجئة اسم في أقصى الأرض حتى لا يكون هناك خطأ في كتابته.. وتنقل أيضا طرفا – بعدا أو قربا عن آلام الظهر- ولكنها توضح إن كانت مجرد نكتة بلا زمان ولا مكان، أو أنها طرفة من الواقع وحدثت وسجلت.. وهذا الذي أشعل مصباح فكرة الموضوع اليوم.. لا أناقش، ولكن أعرض.. كل ما أريد ألا نكون مثل الرجل الذي داخل الثلاجة أو خارجها، أو راميها.. أي حين يتم تناول موضوع من البداية خطأ.. فلا يستشري إلا الخطأ.

في عدد حزيران (يونيو) عام 2006م من مجلة"الريدرز دايجست" ظهرت هذه الطرفة "الواقعية كما نقلت" As reported، كما أشارت المجلة. وتحريا لدقة المجلة فإني هنا أثبت ترجمة عربية نصية نقلا عن الإنجليزية:" عندما هبطت طائرة الخطوط البريطانية في مطار الرياض بالمملكة العربية السعودية، أعلن مضيفُ الطائرة – كما نُقل- قائلا:" سيداتي سادتي، أهلا بكم في الرياض، مراعاة للتوقيت المحلي، أعيدوا ضبط ساعاتكم 300 سنة.. إلى الوراء!".

توجع الظهر؟ صح؟ أكيد. مضيفُ طائرة، من المتوقع أنه يزور الرياض مرارا وتكرارا بحكم وظيفته، يعتقد أنه تجاوز نفق الزمن عائدا ثلاثة قرون إلى الماضي؟ أرأيت، لو تحرى صاحب الشقة قليلا، ولم يبن على الحكم المباشر البسيط لقبض على اللص، فوفر الثلاجة، والأهم لم يسبب آلاما في ظهره.. لأنك حين تريد أن تصل لشخص ما، كرأي، أو دليل، أو إقناع، أو حتى بمادته الفيزيائية فيجب قبل أن تقوم بكل خطوات ومهام التفكير أن تبدأ بإجراءٍ منطقي صغير.. وهو أن تضع نفسك مكانه.. وكفى.

بعد حملات كلفتنا الملايين، ومعارض جابت دول الشمال بنفقات خطيرة، وبجهود أخطر، يجئ مضيف طائرة يزور البلاد تكرارا، ويعلق أمام أكثر من مائتي راكب بأنهم وصلوا لبلد بربري.. بالضبط، ثلاثمائة سنة إلى الوراء. ما الذي جرى؟ أين حملاتنا؟ أين أموال صرفت؟ أين أوقات أهدرت على حملات حثيثة من أجل تجميل الصورة، أو تحسينها أمام الرأي العام العالمي، أو الغربي على التحديد، لأنه لا خلاف على صورتنا في العالم الثالث.. ولا ضرر. أخاف أننا لم نقم بتلك الخطوة الصغيرة الأولى: أن نضع أنفسنا مكانهم.. أن نفكر بطريقتهم؟

ولكن ماذا يعني أن نفكر بطريقتهم، هل نفسخ جلدنا من أجل أن يحبونا أو يقبلوا بنا أو يعترفوا بتطورنا أو تقدمنا؟!.. أصبر علي.

عندما نريد أن يرانا العالم، فالسؤال هل نريد أن يرانا بعينه؟ أم بأعيننا؟ يجب أن نرى أنفسنا تماما كما هو الواقع المثالي الملائم لنا، لا كما نتصور أنه الحقيقة أو يصوَّر لنا.. ثم بعد أن نرى صورتنا الحقيقية أو ما يجب أن نكون عليه، من هنا ننطلق للعالم. إن أردنا أن نلبس قبعة غربية ونخرج للعالم قائلين إننا مثلهم، فلا القبعة تلائم رؤوسنا، ولا العين الغربية تقبل أو حتى توافق على ذلك، وعندما تتلبس مظهرا ليس لك، فإنك ستفقد مظهرك الأصلي، ولن تملك المظهر الآخر. خسارة محققة من طرفين. لذا لم يعرف الغرب الهند حقيقة إلا مع غاندي، ولكن ليس غاندي المتفرنج، ولكن غاندي الذي عاد لأمه الهند.. وقتها في الغرب وصفوه بالتأخر والوحشية، ولكن مع الأيام لم ينجح في نقل صورة جميلة لهم كما يريدون، ولكن نجح في تعزيز صورة الهند لشعب الهند كما يحق لهم أن يتميزوا.. كان محور حركة غاندي هو كسب الشعب، وإعادة ثقته بنفسه وأمته، ولم يكن يهمه أن يكسب الغرب.. في النهاية كسبهما معا.. إلى اليوم.

لم نحدد صورة حقيقية لنا، حتى الآن. هذا ما أصل إليه بوسائلي الإدراكية، أو أن لنا في مخيلتنا أكثر من صورة، صورة نتخلى عنها كما يتخلى حديث نعمة عن ماضيه الفقير، وصورة أعتقد أنها هي التي تستحق أن نفخر بها، ثم لا أجد جاري يضع نفس علامات الافتخار.. علينا أولا أن نحدد صورة لنا حقيقية ومقبولة، ثم سندرك أننا قربنا نحو هذه الصورة التي هي بالحق لنا، أو يجب أن تكون لنا كأمة مستقلة وشعب متميز بصفاته مثل أي شعب آخر.. إن لم يكن حتى أفضل. هذه الصورة بعد أن تقبلها أذهاننا وقلوبنا وضمائرنا هي التي يجب أن نسعى إليها إن كنا عنها بعيدين، وهي التي يجب أن نتشبث بها ونفعّلها لإنتاج الأمة وتقدمها إن كنا حولها قريبين.. ثم يأتي رأي الرجل الغربي.. أو مضيف الطيران على التحديد، ولن يزعجنا رأيه في الأكيد لو كان يعبر عن رأيه في صورة نحن اقتنعنا بها.. الذي يهم اقتناعنا نحن، وليضع ساعته في طوايا المستقبل أو غياهب الماضي.. ولن نحتج. لا نحتاج الاحتجاج، ما دام أن لدينا ما نؤمن، ونعتقد، ونوافق، ونفخر أنه الأصل!

لم يهمنا رأي البابا في الإسلام.. لأن الإسلام صورته واضحة، ولم يجد هو ردا إلا بالاعتذار المخطط لأنه لا يمكن أن يقف بالمنطق والدليل.. لأن الإسلام صورته واضحة.

رأيُ المضيف إن كان انتقادا لما قبلناه نحن جميعا بفخر واعتزاز فلا يعنينا إلا أنه كلام ضاع كغاز يضاف إلى ملوثات الهواء في الرياض، لأننا وجدنا اللص في الثلاجة حين فكرنا أن نضع نفسنا مكانه فكشفناه ولا يهمنا إن أعجبه ذلك أم لا.. إن لم تكن لنا صورة نقبلها جميعا ونفخر بالانتساب إليها.. فليمد المضيفُ ساعة الزمن ما شاء، ومعها.. آهات آلام الظهر!