سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. في رأيي الخالص أننا لن ننقل "ثقافة" التعلم والتعليم لأطفالنا، وأجيالنا حتى نقدّر شيئا مهما، وهو أن يكونوا سعداء أثناء التعلم والتعليم.
ولا أظن أن هذا رأيي وحدي، بل عكفتُ أخيراً على قراءة كتب مهمة في التربية والتعليم، وقد أخذني جدا كتابٌ قيم، والحقيقة هو ليس كتاب بل نوع من المخطوطات التي صارت كتيبا، أو هي مجموعة من خواطر نضجت في عقل شاعر ومثقف عظيم وقدمها على شكل دراسة مليئة بالبصيرة والمعرفة والكشف وكثير من الوجدان الصادق. لم أكن أعرف أن لهذا الشاعر العظيم جدا، والذي أسرني بشعره وكتاباته منذ بواكيري مؤلفات فكرية بحثية. كان هو ضمن ثلاثي عظيم شدوني بقوة إلى اللغة الإنجليزية ومداخل أسرارها العبقة، والآخران هما أوسكار وايلد، وإدغار ألن بو.
كنت في مكتبة تبيع الكتب المستعملة في الشرق ووقع نظري على كتاب طري صغير ومكتوب عليه اسم الشاعر الذي تبعني أو تبعته سنينا.. كانت الحروف ساطعة تي. إس. إليوتT.S.Eliot والعنوان "مدونات للوصول إلى معنى الثقافة"
Notes toward the definition of culture.. وأشار في فصل من فصول الكتاب الذي وصفه بأنه أراد أن يقول الكثير في حيز قليل، وفعل، إلى أن السعادة والرضى هي وسيلة فعالة - وفي أكثر من مقطع كاد يقول إنها الوحيدة من شدة حماسه لها - لنقل المعرفة، و"إليوت" يقول لنا إنها أيضا الوسيلة الأكيدة لنقل الحضارة، سواء الحضارة التي تعيشها حيث يجب أن تعيد اكتشافها ومحبتها والرضى من جديد حتى تعتنقها، أو الحضارة الأجنبية حين أيضا تكتشفها وترضى عنها وتشعر بالسعادة وأن تعتنقها.
عندما أتلفت الآن في أسواقنا، وأجد أن الشباب يلبسون سراويل الجينز التي لا تحملها خصورهم فتنزلق إلى نصف أحواضهم كاشفة في طريق الانزلاق ما تحتها، وألاحظ القبعات المعقوفة أو المقلوبة، والجري على المطاعم السريعة، والفتح الأكبر لمقاهي "الستار بكس" أتذكر أن كلام "إليوت" حقيقي جدا، وواقعي، وأن الرجل يملك رؤية تنبؤية علمية وتربوية وبمنظار كوني. إن الشباب الذين نراهم حولنا متلفعين كاملا بالمظهر الغربي (الأمريكي خاصة) لم نعلمهم إياه في بيوتنا ولا مدارسنا، ولا هي كما نقول دائما من ثوابتنا ولا عاداتنا التي نصيح على كل منبر وفي كل مناسبة بأنها التي تعطينا ميزتنا كسعوديين وكمسلمين.. إذن من أين "اعتنق" - كما يحب إليوت أن يصف انتقال المعرفة والمظهر الثقافي- الشباب الصغار هذه المظاهر، والسلوك، والرغبات، والعادات، وطريقة اللغة الجديدة التي شاعت بينهم بلا مدرسة ولا منزل؟ إنهما العنصران اللذان يراهما إليوت عجلتي العربة الوحيدة التي تجعل المعرفة تأخذ دروبها سلسلة إلى عقول الأجيال وهما: السعادة والرضى. الشباب لأمر يجب أن نكشفه، سعيدون وهم يتطبعون بالطبع الأمريكي السائد، وهم راضون عن أنه يقدم لهم قناعة حضورهم واستقلال شخصياتهم.. لذا يعرف شاب كثيرا من الأغاني والأفلام والشخصيات وأنواع العلامات التجارية الشائعة في الغرب، ولو سألته بغتة من هو وزير التعليم عندنا لرفع القبعة ليهرش رأسه، ولو طلبت منه أن يعيد نصا من قصيدة درسها في المدرسة لاستسخف طلبك أساسا وهو يحتسي الكابتشينو بالكراميل في مقهى الستار بكس.. وهنا أيضا ربما يساعدنا لما لا تتفاعل الأجيال مع قضايانا الكبرى، فكم مرة وصل بريدك، كم مرة قرأت تحذيرا، كم مرة طولبنا بأن نقاطع الستار بكس من أجل مصيرنا العربي وأحيانا قضايانا الدينية، ثم تذهب إلى "الستار بكس" لتتمتع لتراه فارغا لا يدور به إلا الهواء، فتصعق ـ ولكن بلا مفاجأة ـ بأن المقهى مليء للآخرة، ولا بأس بعد أن تدور دورتين في المركز التجاري أن تختلس نفسك من نفسا، وتخادع وعيك المرتبط بكل قضاياه الكبرى، وتتكوم خلسة في أحد الكراسي بعد أن تكون قد طلبت الكابتشينو بنكهة الكاراميل.. هذه هي المشكلة، نحن لسنا سعداء، ولسنا راضين عن طريقة نقل المعرفة، لسنا راضين ولا سعداء في نقل العلم.. ولا أولادنا.
وأنا لم أدرس في أمريكا، كل دراستي الأساسية في بلدي، ولكن كنا في مجتمع شبه أمريكي لما كان آباؤنا يعملون في الضاحية العمالية رحيمة، وهناك عرف زملائي وأنا ساحر أوز.. لأنه كانت لدينا محطة صغيرة تملكها شركة أرامكو وتقدم أفلاما وبرامج أمريكية، وكرتونية ومنها ساحر أوز The Wizard of Oz من أرض أوز عن بنت اسمها "دوروثي" حملها إعصار إلى أرض "أوز" حيث رافقت أسدا راقصا، ورجلا من صفيح، وفزّاعة.. وكنا نسعد بها وتلهب مخيلاتنا الصغيرة..
لذا لما رويت لأصحابي الصغار، في ذلك الوقت البعيد، في الضاحية الغافية، قصة حكتها لي جدتي بعنوان "أم العنزين".. وقعوا على قفاهم من الضحك؟
لا.. لم ننته بعد، أكمل معكم يوم الإثنين، إن شاء الله.