سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
* قصة حقيقية لرجل حقيقي: الرجل الماسة!
بعض الناس مثل الأحجار الكريمة تجده فجأة لامعا أمامك وكأنه ينتظرك، وبعضهم لا يمكن أبدا أن تصنعهم وعلى المرء أن يبحث عنهم. وبعضهم أمامك ولا تصلهم، وبعضهم تراهم من وراء حاجز ولا يمكنك الحصول عليهم..
هؤلاء الناس صادفتهم بحياتي.. بأنواعهم. وقد عرفت جوهرة حقيقية، مثل أعتق جواهر الأرض، الألماس. فهو براق الشخصية، وهاج الحضور، قاطع الرأي، ولكن من أجمل ما تراه عينٌ في حلاوة الطلة، وفي أصالة الأخلاق.. ورفعة المبادئ، وما رأيت من يمثل الألماس مثله فهو ماسة من عرفناه في الطفولة، وهو ماسة لن يتغير عندما يأتي بإذن الله يوم الحق.
جاءنا شابا يافعا، ونحن أطفال، من قلب شمال نجد، وكنا نظن أننا سنلاقي قرويا ساذجا، لأننا كنا سكان ضاحية تجمع أسباب المدنية بجوار شركة النفط الكبرى.. وكنا نعد أنفسنا لمسرحية مضحكة تبخر الروتين في العطلة الصيفية. ولكنه جاء..
جاء حييا، راقيا، ناصع الشكل، جرسي الحديث، حلو الطباع.. وعلمني في تلك الصيفية كيف أنتقل من حال إلى حال.. علمني أن أقرأ، وعلمني أن أكتشف نفسي، وقال لي ذات ليلة: انظر إلى النجوم وتأمل إلى الأبد.. وعندما تضغط علي الدنيا ما زلت حتى اليوم أجول في النجوم.. وهنا عبرة لي في كيف يكون الصديق فواحا مثل بائع المسك.
علمني أن الله من محبته لنا أن نحب بعضنا، أيّا كنا. علمني كيف أرتبط بالناس وكيف يرتبطون بي. شيء واحد لم أحسن أن أتعلمه منه، وهو أنه لا ينسى معروفا مهما طال الزمن وبعدت المسافة.. مهما كان المعروف ضئيلا يبقى على قلبه جبلا يحمله معه كل عمره. مرة قال لي: إنه لن ينسى فضل والدتي طيلة عمره، وأنه حتى يستحي من مواجهتنا من فرط حرجه وجحوده (!)، أما عظم المعروف هذا الذي لا يمكنه رده، ولما عرفنا السبب ضحكنا. فلأن أمي كانت تغسل ملابسنا وملابسه.. وقتها لم يكن معه إلا ثوبين! وضحكنا كثيرا. أمي لم تضحك لما أخبرتها، وهو لن يضحك.. كيف يضحك مأسور؟!
عرفت فيما بعد أن المعروف مهما حقر مقداره يأسر ضمير الكريم .. ويكون الإسار ثقيلا. عندها، توقفت عن الضحك. وتعلمت عبرة كبيرة من الواقع، أن هناك نفوسا بلا قرار مهما أعطيتها، ومهما واصلت العطاء فهي لا تعطيك إلا الخواء، وطلب المزيد، بلا شكر، بل بنفور واستعلاء وكأنهم هم أصحاب الحق، وأنت خادم ذاك الحق. وأن هناك نفوسا ملأى رغم فقر هذا الامتلاء إلا أنه من نوعية مكثفة وهي الطيبة، وتقدير من يقدم لها عملا مهما كان هامشيا وكأنها أعطيت خزائن الأرض، نفس تفيض بأي شيء تعمله معها أو لها لأنها ممتلئة في البدء. وكأن هذه عبرة من العبر بألا تـُكرم إلا كريما، وألا تكرم من لا يعرف للكرم صفة أو طريقا.
ذهب صاحبنا إلى الولايات المتحدة في بعثة، وكثير من الذين كانوا يذهبون آنذاك يعودون وقد تأمركوا، أو أنهم يحاولون أن يتأمركوا، أو أن انقلابا ملحوظا جرى في كامل بنيانهم الشخصي، وكان هذا طبيعيا ومتوقعا، أما صاحبنا فقد كان قد حفر ثقته عميقا في نفوسنا، ولما كان يتساءل أحد إن كان سيأتي أيضا من أمريكا وقد حمل معه صفات التأثير الأمريكي البازغة، كنا من فرط ثقتنا نجيب بثبات ونقول إنه بعد سنوات لما يعود من هناك فإن من سيتغير هم الأمريكان، لأن مبادئه ويقينه وثبات رؤيته الأولى، كنقاء الماس لا يتغير سواء صنته في صندوق من الأبنوس المدثر بالمخمل، أو رميته بحاوية مهملات في درب وسخ.. بكلتا الحالتين، تبقى ألماسة بكل مجدها، وألقها.. وهنا تعلمت درسا أن النفوس الثابتة الجنان والمبدأ وراسخة الإيمان لن تتغير حتى ولو وضعتها في حمأة الكفر، وأن النفوس المتهتكة الضعيفة لا يجدي بها ولو رميتها بحدائق مسيجة من الحماية والصون.
ثم تسلم العمل الحكومي، وكان في كل عمل ناجحا.. إلا أنه مسؤول رأيت بعيني كيف ودعه موظفوه وهم يبكون. وشهدت شيئا أعجب، عندما أقام أهل المنطقة التي خدم بها حفلا عاما في أرقى فنادق المنطقة.. وبعضهم لم يكمل خطبته من البكاء.. أنا أكتب هذا، وأعرف أن مئات من الناس سيتذكرون تلك اللحظات المهيبة المشرقة بالحب الإنساني..لأنهم كانوا هناك تلك الليلة. رجل من الجمهور خرج من الصفوف وقال بعفوية لا تقل بلاغة عن أروع التعابير: طول عمري كنت أظن الموظف هو الذي نخدمه لنرضيه، أول مرة أرى موظفا يعلمنا درسا جديدا، ويقول إن هذا هو الحق، وهو طبيعة الأشياء، بأن الموظف المسؤول هو الذي عليه أن يخدمنا وهو الذي عليه يرضينا.
لما ودعه الناس لم يكن آمرا، ولا قائدا، ولا من وجهاء المال والنفوذ، كان فقط.. موظفا. وهنا أهدي قصة الرجل الماسة عبرة إلى كل موظف في كل درجة حتى ينال المجد الحقيقي والسعادة الحقيقية: رضا الله ثم محبة الناس وهو على الكرسي.. والأهم، والأكثر روعة، وهو قد ترجل من الكرسي.
وإني واثق، إن شاء الله، أن هناك ماسة تلمع في ضمير كل موظف، وندعو أن يجد بريقـُها مخرجا ليرسل لنا الواجبَ روعةً وجمالا زاهي الأنوار.