سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
مع أني فتحت الأرضَ، ولم تبق بقعة لم تدسها أقدام جيشي، وأفيالي..
ولكن، لا يبق في قلبي إلا مدينة واحدة، في كل هذه الدنيا المليئة بالمدن..
وفي تلك المدينة، لا يبقى في قلبي إلا بيت واحد في مدينة ملأى بالبيوت..
وفي ذلك البيت غرفة واحدة فقط في قلبي، في بيت به الكثير من الغرف..
وفي تلك الغرفة يبقى في قلبي سريرٌ صغيرٌ، تتطاول إليه عبر أشجار الترنج أشعة الشمس، وأنفاسُ القمر، وتداعب أخدارَهُ نسائمُ الدغل ِ القريب..
وكائنٌ جميلٌ فقط هو الذي في قلبي، وهو الذي في ذاك السرير..
طفل واحد هو ذلك الذي في قلبي.. ابني.. ابني..
ابني، السعادةُ المشرقةُ في قلبي ، وجوهرة كل مملكتي..
وإن لم تحبني كما أحبك.. فلا الأرض ولا الفتوحات، ولا الأمجاد..
إن لم تحبني، فأنا أكبر المدحورين في الأرض..
فأنت أهم فتوحاتي.."
شعر يحرك القلبَ الصوان، ترجمته من الإنجليزية عن قائد عسكري سنسكريتي أخضع الرجال والأمم والجيوش، ولكن قلب الوالد، هو قلب الوالد، قبل كل شيء، وبعد كل شيء.. يقول القائد المظفر إن كل فتوحاته لا تساوي شيئا أمام فقط أن يحبه ابنه ، وعندما ينأى عنا أولادنا، وتأخذهم أحاسيس جارفة في قلوبهم بعيدا عنا، فهذا إذن " أهم اندحاراتنا" كما قال الفاتح الشاعر الهندي القديم.
رسالة فتحت قلبي بجرح واسع ثم صبت فيه عبارات العتاب المحرقة مباشرة على الجرح المفتوح، رسالة من فتي نابه الأسلوب وقع اسمه "عدنان .." كتب يقول لي (بتصرف قليل مني في الأسلوب): " فسر لي يا سيدي هذا المشهد، إذا نفـّذ ابنك كل شيء أردته منه، سمع كلامك، ودرس، واجتهد، وصعد بمعدلاته، وبعد ذاك تقذف به وبشهاداته، وكأن حصاد عمره الصغير، ليس إلا ورقا يابسا. هذا شعوري الآن، بعد أن أمضيت عمري أسقيه بدمي وجهدي، وحتى حرماني.. ثم يقول: " أنا لا يهمني كيف ستشعر، لأنكم أخذتكم كل حصتكم ونسيتمونا، لم يعد يريدنا أحد، نحن عبء عليكم، أنتم لا تحبوننا، لأنكم لا تشعرون بألمنا وخذلاننا، وتكسرنا، وضياع الحياة أمامنا، وتيهنا العقلي، وغضبنا، وحسرتنا، ونحن كما تقولون صغار لا نعرف من خبرة الحياة شيئا، فكل عمرنا الصغير قضيناه نسمع كلامكم، فدفنا رؤوسنا وأعمارنا وقلوبنا في الكتب.. كنا نظن أن هذا ما علينا، ثم الباقي عليكم.. وأنتم لا تعرفون إلا شيئا واحدا، فقط الأمر! الأمر بأن نحبكم، بأن نحترمكم، بأن نخدمكم! قل لي كيف؟ ونحن ضاعت طاقاتنا، فلم نعد قادرين حتى على حمل أنفسنا.. كيف وقد تركنا في الهواء لا نعرف إلا شيئا واحدا، وهو السقوط! لأنكم لم تعلمونا الطيران لكي نرتفع، ولم تأخذونا بأياديكم لكي نقلع.. ثم تطلبون أن نحبكم، ونحب كل شيء حولكم.. أقول لك نيابة عن كل من في سني، كل من وقف في الطوابير تحت الشمس، كل من واجه وجوها غاضبة في امتحانات القبول، كل من عوملَ شزرا وهو يطلب الوظيفة، وكأننا اقتحمنا حياتهم الهانئة، أقول لك:.. إننا أغراب، وسنبقى أغرابا"..
"سيدي ( وهذا ما بقي لي من الأدب) أحمد ربي أني قرأت كثيرا، لأن هذا مكنني أن أخط ألمي وألم من هم في عمري أمامك، وعندما أتألم لا تتوقع مني أن ابتسم في وجهك..".
يقول عدنان: "فعلنا الذي علينا، وكنا ننتظر أن تفعلوا الذي عليكم.. لقد أخرجتمونا من أعشاشنا فجأة، وألقيتمونا في الشاهق المفتوح، ثم ماذا؟ نسيتم شيئا، لم تعلمونا الطيران! بل لم تمدوا أياديكم ونحن في طريقنا للارتطام بالأرض". كأنه يسألني كيف أحبّ الأرضَ التي ارتطمت بها؟! وكيف أدافع عن هواها الذي لم يحملني على الطيران؟! ثم كيف أقبل أياديكم التي لم تكن هناك لتقيني آلام الارتطام؟!
عدنان لم يترك لي إلا الخوف - الخوف أن يغترب أبناؤنا عنا، ثم لا نفلح أن نصل إليهم، وهنا ننتج بأنفسنا، ومن أيادينا، ومن لحمنا ودمنا، جيلا غاضبا، لن تنفع فيه كل أناشيد الوطنية والحماسة، لأنه ضُرب في الشيء الوحيد الذي يملكه.. حياته. وخسر الحلم الوحيد الذي يتطلع إليه .. مستقبله.
ولكني أقول لعدنان ولكل فتي، ولكل فتاة: ربما لا أستطيع أن أعدكم بشيء الآن، وإن وعدت فلن تصدقوا. ولكن هناك دائما المخارج، ولا أظن أن الحياة والنجاح وفرص المستقبل الواعدة لا تكون إلا ضمن أسوار الجامعات، أو الوظائف المقننة، فالدنيا مفتوحة، وهي أكبر من أسوار أي جامعة، وأوسع مدى من أي وظيفة.. والفرص أصلا من الله، والله لا يقطع الفرص، ولا تيأسوا، لأني بالفعل أؤمن بأن عدم اليأس نجاة، وكثيرون صنعوا النجاح لأنهم لم ييأسوا، فاليأس هو مستنقع الرمال المتحركة الذي يلفنا حتى نغرق .. نغرق تماما، ولا نستطيع الإفلات. كل مشكلة، وكل ملمة اجعلوها حافزا، وطاقة للمضي.. هذه هي الحياة. الذي أؤمن به، أن الله لا يترك عبدا جادا، مجتهدا.. وصالحا!
ثم لو كرهتمونا، أو كرهتم أرضكم، فهل سيحبكم آخرون؟ وهل ستقلكم أرض أخرى؟ لا أظن.. فنحن نحبكم.. ربما أخطأنا.. ولكن نحبكم.. والأرض تقلكم ولا ذنب لها أن سقطتم عليها. ولا الكره يعالج شيئا، ولكنه شريط الوقود الذي يوصل بالبارود..ثم الانفجار.
عدنان: ثق أن هناك من يحبونكم بالفعل، ويخططون لوضع أفضل لكم .. وأنا أضع آمالي عليهم، بعد الله..
عدنان ابني: أريدك أن تحبني .. لم أنتصر يوما مثل الفاتحين، ولكن إن فقد واحد منا حبك يا عدنان، فهو كما قال الفاتح الهندي القديم: "لو لم تحبني، فهذا أعظم اندحاراتي..".
بأمر الله، سيشرق المستقبل..لأن الدنيا ليل ثم نهار!