سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. جاءتني رسالة بأن أحرص على قراءة المجلة الأمريكية العالمية "الريدرز دايجست"، وفيها مقتطفات من كل حقل وبستان معرفي وإنساني. وقرأت ما نصحني به المرسل.. فتحول يومي عن كل منغصات هذا الواقع الذي يعصرنا كل يوم حتى صرنا نريد خبرا نظيفا، كما يتوق الإنسان داخل منجم فحم إلى أن يتنسم هواء نقيا.. صار اليومُ حديقة ً، وصارت الأفكارُ ورودا..
الحكاية وإن وردت في أمريكا، فهي قصة إنسانية تصير في كل مكان، أو نحلم أن تصير كل يوم في كل مكان. وأنا متأكد أن كلا منكم قد سمع، أو جرب واقعا لحوادث من جمالها الإنساني تلامس تخوم المعجزات.. أو كما قال كاتبي المفضل المخيف "إدغارألن بو": "الروح الجميلة تعطيك تذكرة في رحلة إلى الجنة". ولا أستطيع طبعا أن أمنح أي تذاكر، ولكني أنقل القصة مترجما لها بتصرف لعل هذا الشعور الذي تراقص على أوتار قلب مرسل الرسالة ثم إلى أوتار قلبي.. أن يجد في قلوبكم ذات الإيقاع والصدى.. وإليكم الحكاية الواقعية:
إن في داخل كل يوم هناك معجزة مقدر لها أن تصير. الزمان والمسافة لا يهمان في حصول المعجزة.. كل ما يتطلب لتكتمل والمعجزة واقعا، هو الاستعداد والجاهزية لاستقبالها. والمعجزة بتلك العناصر والظروف قد تحلّ في أي مكان، في الشارع ، في العمل.. وحتى في ساحة الملعب.
كان الطفل "كيفن ستيفان" في عام 1999 في الحادية عشرة من عمره. وكان في ساحة الملعب في المدرسة الابتدائية التي يدرس فيها، واللعبة هي كرة القاعدة "Baseball"، وكانت الأطفال الباقون لاهين في اللعب، وستيفان يأخذ مركزه كلاعب القذف من نقطة البداية. كان متحمسا جدا وفي غاية السعادة وهو يمارس لعبته الأولى، ويعد نفسه أن يحقق نصرا اليوم.. على أن الأشياء تجري بنحو مفاجئ أحيانا لتقلب كل شيء على عقب.. وهذا ما حدث للطفل ستيفان في ذلك اليوم..
كان هناك طفل آخر من سنه خارج خط اللعب ويتدرب أن يطوح بمضرب الكرة الغليظ، ثم يحاول أن يطوح أكثر وأكثر، بكل ما أوتي طفل في عمره من قوة.. ثم فلت المضرب من يده الصغيره وهو في كامل طاقته التطويحية ودار كالمروحة في الهواء ليتجه مباشرة إلى الهدف. أما الهدف فقد كان صدر الطفل "كيفن". ضرب المضرب صدر الصغير كصاعقة حلت من السماء..
.. ثم وقع الطفل على الأرض، وتوقف قلبه عن الخفقان.
عندما وقع "كيفن" على الأرض من هول الضربة، قفزت لا شعوريا وبسرعة من وراء الملعب والدة أحد الأطفال المشاركين في اللعبة لتساعد الصبي محاولة إنقاذه.. المرأة هي "بيني براون"، ولم يكن مخططا لها أن تكون في ساحة الملعب في ذلك الوقت، لأنها تعمل ممرضة وستكون مشغولة أثناء المباراة التي يلعب فيها صغيرها، ولكن وبشكل فجائي تحول دوامها من فترة إلى أخرى، فأعطيت إجازة لذلك اليوم على التحديد، انتهزتها فرصة لمشاركة ابنها حماسته وهو يلعب.
انكبت "بيني براون" على الطفل الذي راح في غيبوبة، وكان وجهه يتحول رويدا إلى اللون الأزرق علامة فقدان الأوكسجين.. فمارست عليه في الحال الإنقاذ السريع بالتنفس بالفم والضغط على الصدر.. لحظات، ثم فاق الطفل.. تم إنقاذه من موت أكيد.
تعاقبت السنون وكبر "كيفن" الذي لم يكن فقط لاعب كرة قاعدة، بل كان كشافا منضبطا في فرقة الكشافة التي أحبها وتعلم منها الكثير من فنون الكشافة، وثقافة الإنقاذ، وروح الاستعداد المتأهبة لمساعدة الآخرين. لذا فقد كان دائما كشافا متفوقا واستثنائيا، ويحقق أقصى الدرجات في اختبارات الكشافة الدورية، وصنع لنفسه سجلا كشفيا ناصعا.. وجدّ في تسلق درجات السلم الكشفي حتى وصل إلى الدرجة العليا: درجة النسر.
على أن الأمر بالنسبة للشاب اليافع "كيفن" لم يقف فقط عند تسنم أعلى مراكز الحركة الكشفية، بل إنه كان بطاقة فياضة من حب خدمة مجتمعه، فانضوى إضافة إلى ولعه الكشفي كمتدرب إطفائي في فريق الإطفاء في بلدته ، وكان مما تعلمه في فرقة الإطفاء تقنية إنقاذ الحياة السريعة.. تماما مثل تلك الطريقة التي في يوم ما في ساحة اللعب بمدرسته الابتدائية تم بها إنقاذ حياته.
"كيفن" درس بجدٍ واجتهادٍ وحرصٍ في مرحلته الثانوية، كعادته، ثم إنه التحق بمطعم في بلدته عمل فيه بوظيفة غاسل للصحون (هذا الشاب في أمريكا، أغنى دولة في الدنيا، فقط ملاحظة عابرة ليس لأبنائنا فقط بل حتى لنا.. كلنا). وسبب عمله الإضافي أنه كان يريد أن يدخر مالا كافيا لدراسته الجامعية.. لذا كان "كيفن" تقريبا لا يتوقف عن العمل، ولا يتوقف عن التطوع في الكشافة وفي فرقة الإطفاء، ولا يتوقف عن الاجتهاد الجاد في مدرسته، ومضت الأيام تباعا.. حتى كان في ظهيرة يوم 27 كانون الثاني (يناير) عام 2006.. ليحدث شيءٌ حرّك تعاقبَ الأيام الروتيني..
كيفن في ذاك اليوم لتوه بلغ السابعة عشرة، وكان غارقا في العمل كعادته كل يوم في غسل الأطباق المتطاولة عندما تناهى إلى سمعه صراخ الناس مصحوبا بضجيج ٍبلع روتينَ الصمت.. وبدأ الزبائن يتجمعون بفوضى وهلع، والموظفون يتراكضون نحو طاولةٍ بعينها.. تسلل "كيفن" بين الزبائن والموظفين الذي شكلوا حلقة حول الطاولة.. ليهوله ما رأى.
حين أشرف كيفن على الطاولة، رأى امرأة واقفة في فزع هائل وعينيها تكادان تخرجان من محجريهما، ولون بشرتها تحول إلى اللون الأزرق .. لون الموت. كانت يداها مطبقتين على رقبتها بارتجاف.. كانت المرأة تختنق بطعام انحشر في حنجرتها، فمنع الهواء. كانت المرأة تلمس جدار الموت.
وبسرعة البرق التف كيفن خلف المرأة وأحاط صدرها بيديه بقوة وتحكم وشبك يديه بحزم.. ثم مستخدما مهارات تعلمها وتدرب عليها في الكشافة بدأ يضغط صدر المرأة باتجاهه وإلى الأعلى.. مرة.. مرتين.. مطبقا "حركة هيميليتش". ثم، وفجأة، انطلق كالرصاصة الطعام من حنجرة المرأة ليخرج عبر فمها.. وبدأ لون الحياة الزاهي يعود لوجهها..
من كانت تلك المرأة؟
المرأة كانت.. "بيتي براون". منقذته!