غريزةُ الحياة تقفُ فوق أي قضية! 1من2

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

الموضوعُ مهم، ويخص حياة أو موتَ أفراد بيننا، ولا بد أن تنظر فيه الجهات الصحية المختصة، والدوائر الخارجية في البلاد.. وهو عالقٌ بين أحراش من النظريات الطبية والأخلاقية، ولكن لن يستمر هذا الواقعُ الحرج ُطويلا، فإن تصُّيدَ فرص الحياة أمرٌ حتميٌ، جريٌ غريزي.. لا يقف أمام نظرية هنا، أو مبدأ هناك.

وما أعنيه هم المرضى الذين مرضت كلاهم حتى وصلوا إلى ما يسميه الأطباء فشل الكلى النهائي.. وهنا إن لم يُعوض عملُ الكلى الحيوي، فإن المريضَ سيتسمم حتى الموت.. وظيفة الكلية هي أن تكون مصفاة الحياة.

وهذا التعويض يكون عن طريقين إما عن طريق غسيل الكلى ( الديلزة) وإما عن طريق استزراع كلية جديدة.

أما غسيل الكلى فهو تعويض يكاد أن يكون مؤقتا (وفي حالات مسجلة استمر أعواما طويلة) وذلك في إيصال المريض بجهاز تصفية دمٍ صناعي لجلسات تراوح بين المرة الواحدة والثلاث مرات أسبوعيا حسب الحالة، ووضع المريض. ولكن هذا النوعُ من العلاج (والعلاجُ هنا كلمة ٌافتراضية لأن لا شفاءَ في هذه الحالة) وتستمر حياة المريض، ولكنها حياة مقيدة، واستعباد من الجهاز الذي يصل المريض بالحياة، ويكون قدره، بعد أمر الله، مربوطا بهذا الجهاز، ولا يستطيعُ المريضُ أن يرتحل بعيدا عن الجهاز إلا إن كان هناك استعداد لاستقباله في مستشفى في الأماكن التي سيذهب إليها، في حالات كثيرة يبدو هذا صورة من المُحال.. إذن، أعتبر هذا العلاجَ مؤقتا مهما طال، كما لا يمكن اعتبار المريض يعيش حياة طبيعية وهو على (الديلزة)، فكفاءة الحياة في أوجه كثيرة تتناقص أو تقف.

والاستزراعُ هو القفزُ من منطقة الحياة واللا حياة إلى شواطئ الحياة، والعيشُ طبيعيا مثل باقي الناس الأصحاء.. وهذا ليس فقط أمل وحلم كل مريض كلى، ولكنها دعوة الحياة ذاتها، وأمام قوة سيل رغبة الحياة لا يقف شيء. رغم كل النظريات، ورغم كل ما يُخترع من أخلاقيات الطب، فالمريضُ يتعلق بقشة دعوة للحياة تأتيه من أي مكان، أو أي بصيص من نور.

واستزراعُ الكلى يسير بصورة كفؤة جدا في بلادنا، وتسجل مستشفياتنا الكبرى معدلات عالمية متفوقة، وهذا ما أعرفه أنا شخصيا وواقعيا، لأني مرتبط بهذا النوع من الصناعة الصحية ارتباطا وثيقا، وأختص بعلاقات صداقة واهتمام مع أطبائنا المتفوقين في مجالي باطنية الكلى وجراحة الكلى، وأعرف مراكز الاستزراع في مستشفياتنا الكبرى وهي تتقدم كل يوم، ولكن نتكلم عن نوع واحد من استزراع الكلى وهو أن يكون هناك متبرع حي وقريب للمريض.. أما أن يكون حيا، فأنسجة الحياة عند الشخص الحي ترتفع عن الموتى دماغيا، وحتى الموت الدماغي موضوع أخلاقي وعلمي وديني مازال النقاشُ حوله عنيفا ومتقدا. أما أن يكون قريبا فهذا ما أشرت لكم عنه بالأخلاق الطبية، فقد رأى الجسم الطبي العالمي أن أي تبرع من غير قريب هي عملية غير أخلاقية، لماذا؟ لأنها تنتقل إلى خانة المتاجرة بالكلى.. غير أن من يرى الموت كل يوم، ويتواعد مع العذاب ونقص كفاءة الحياة في كل لحظة لا يمكن أن يفهم نقطة أخلاق واحدة من منعه من الحياة.

هناك دول حلت الموضوع وبمنطقية باهرة، ويعجبني أن تتفهم الضمائر الطبية أن الحياة تقف فوق أي قضية أخلاقية مفترضة، أو أن تخضع لأي فلسفة نظرية، ومن هذه الدول إيران، التي رأت إنقاذا لمرضى الكلى السماح بالتبرع من الأحياء البعيدين، وقصرتها على الإيرانيين – وهذا حقها المباح – وهنا وسعت إيران دوائر الحياة لمرضى الكلى، ويتناهى إلى أن معدل انتظار المرضى لاستزراع الكلى يكاد يصل إلى الصفر.. بينما عندنا، وفي الدول الأخرى، تتصاعد الأرقام كل يوم بالآلاف!

ولكن هل سيقف المرضى، أو ذووهم أمام هذه الضواد والموانع.. لا. قطعا لا!

كل عامل في بلادنا في الشأن الصحي – وحتى خارجه – يعرفون أن عشرات من مرضانا كل شهر يتدفقون إلى أي مسرب خارجي يعدهم بزراعة الكلى، ولا أحد يستطيع أن يقف ضد ذلك.. ولكن الضريبة تكون غالية، عندما يتم إجراء هذه العمليات في دول مثلنا لم يرخص بها التبرع من الأحياء البعيدين.

بعضهم يذهب إلى الهند، وباكستان، ودول أخرى، والنتيجة غالبا لا تكون مفرحة، إن لم تكن مميتة. والسبب ليس ضعف الصناعة الطبية المختصة في تلك البلدان، وإنما نعرف جيدا أن فيها أطباء وجراحين بارعين، ولكن، وهنا المسألة، هؤلاء البارعون الكبار لا يخرقون القانون خوفا على سمعتهم المحلية أو العالمية، وأي عقاب ينالهم إزاء ذلك، فمن يبرز إن ذهبت النسور؟ بغاث الطير. وهم هؤلاء الأطباء غير الأكفاء أو غير المرخصين، والأهم في زراعة الكلى هو المكان. أهم مراحل الشفاء في عملية الاستزراع ليس العملية الجراحية نفسها، ولكن العناية والخدمات المقدمة للمريض بعد العلاج. وهذه الخدمات شقان.

الشق الأول: النظافة المطلقة وحماية المريض من الالتهابات التي قد تؤدي إلى فشل الكلية أو إصابة المريض بأمراض قد تكون مميتة، لأن جسد المستزرع له الكلية يكون تقريبا بلا مناعة، أو بمناعة مخفضة جدا، بفعل عقاقير مخفضات المناعة التي تحمي الكلية من رفض الجسد المضيف.. وهنا، هل تتخيل أن طبيبا نكرة سيكون في مستشفى مؤهل كهذه العناية القصوى، ويكون عنده الطواقم والخدمات الجاهزة للتصدي لأي عارض.. من قصور التفكير حتى أن تفكر. رأيت بعض الأماكن شخصيا في الهند وباكستان، بعضها لا تقبله لتناول صحن من الفول!

والشقُ الثاني هو كيفية العلاج.. بعض هؤلاء الأطباء الطفيليات، إما يحقنون الممستزرع له الكلية بعقاقير مخفضات المناعة بقسوة وعدائية حتى يصل معدل الكرياتنين به حول المعدل الطبيعي (مقياس يدل على كفاءة عمل الكلى) ثم لما يخرج أو يصل للديار يخرج الوحش من جسده ليلتهمه من جديد.. وبعض الأطباء لأنهم يتقاضون أجورا مخفضة لتشجيع المرضى للقدوم إليهم يتلاعبون بكمية المخفضات، وبالذات النفيسة منها.. أدوية مخفضات المناعة هي من أغلى الأدوية على الإطلاق.

والسؤال: هل انعدمت خيارات الحياة أمام المرضى؟

أجيب: لا، والفرصة الممتازة موجودة، وعلينا أن نديرها بمنتهى العناية والحكمة وبضمير يخفق من أجل المرضى.

يوم السبت المقبل – إن شاء الله- أستعرض معكم فرص الحياة!