سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. تحدثت في الحلقة الأولى عن مرض الفشل الكلوي النهائي، وعن الوسيلتين اللتين تبقيان المريض على قيد الحياة، واحدة هي "الديلزة" (غسيل الدم)، والأخرى هي استزراع كلية، وهي بنوعين، الزراعة من إنسان ميت دماغيا، أو الزراعة من شخص حي، وهي أيضا نوعان، نوع مقبول وقانوني ومعترف به في كل مكان في العالم وهي الزراعة من قريب، والأخرى الزراعة من حي غير قريب، وأشرنا أن الأخلاق الطبية التي تأخذ صفة القانون عمليا تمنع هذا النوع باعتباره تجارة في الأعضاء البشرية، ولم أعارض مبدأ الزراعة من غير قريب، ولكني معكم وصلنا إلى استحالة أن يترك المريضُ أو أقرباؤه فرصة له في الحياة.. الحياة الطبيعية. ثم تساءلت في آخر المقال: هل انعدمت خيارات الحياة أمام المرضى؟ وكانت الإجابة: لا، والفرصة الممتازة موجودة، وعلينا أن نديرها بمنتهى العناية والحكمة وبضمير يخفق من أجل المرضى.
كيف؟
بما أننا توصلنا إلى أن الذهاب لزراعة الكلى في بلدان تمنعه قانونيا هو الخطأ بعينه، وعللنا ذلك بأن الأطباء والمستشفيات المؤهلة عادة لن تقبل خرق القانون، فلا يكون في الساحة إلا أطباء منتفعون يعملون أي شيء من أجل المال، ولا يكون المريض أول اهتماماتهم، فتكون النتائج وخيمة. ولكن يذهب لهم الناس بنظرية أن الغريق يتعلق بقشة، ولأن أسعارهم أقل بكثير، ولأنهم الفرصة السانحة.. والنتائج في النهاية القصيرة أو الطويلة تكون أحيانا خطرة أو.. أكثر من ذلك.
هناك دولة وحيدة تقريبا في آسيا التي لا تمنع تبرع غير القريب، وهي تعلم أيضا أن القضية فيها أموال تدفع لمن "يتبرع" بكليته، وأنا أعرف ذلك عن كثب وشاركت في نقاشات هناك حول الموضوع في كل الأوساط: في الأوساط الطبية، والفكرية، والإعلامية، والكتابة في صحفهم، ومع صانعي القرار السياسي، منذ قرابة عقد من الزمن، ومررنا معهم في طلعات ومنخفضات بحكم ذاك القانون الأخلاقي، فيسمحون على مضض تارة، ثم يمنعون تارة أيضا على مضض، ولكن تحت ضغوط الحملات الصحافية التي تكون في كثير من الحالات مبنية على دسائس وأغراض أو برباجندا صحافية، ولكن تقف على المبدأ الذي لا يجرؤ أحد على الوقوف ضده، مبدأ الأخلاقي الطبي. ونحن الآن في الحالة الجيدة التي لا تمنع فيها الفلبين قانوناً التبرع لمريض أجنبي من فلبيني، وهناك ضوابط، لا شك، ولكن من تجربتي كانت الضوابط دوما قابلة للنقاش لأسباب عدة منها الناحية الاقتصادية البحتة.
والفلبين بلد ممتاز "جدا" لاستزراع الكلى، لماذا؟ أولا لأن القانون لا يمنع من التبرع من غير القريب، وبالتالي يتاح لأي مريض فلبيني أو أجنبي أن يحصل على التبرع. والعنصر المهم الآخر هو بما أنه قانوني أو غير محرم – بصورة أدق ـ ففي المستشفيات الكبرى الأطباء الكبار يحق لهم – ويستطيعون ـ القيام بعمليات الزراعة والرعاية الحادة الحاسمة للمريض بعد زراعة الكلية ويسجلون نجاحا حسب الفترة التي تابعتها معهم، وفي المستشفى الذي كنت معه بالذات. فـأطباء مثل الدكتورة "روزا ليكيتي" ومستشفى مثل مستشفى "السينتز لوك" هم ضمن أعلى المستويات الدولية، وخدماتهم وقدرتهم مذهلة، وهناك أطباء آخرون ومستشفيات أخرى، قد لا تجاري السينتز لوك ولكنها بمستويات مقبولة.. ويبقى أيضا أن هناك سوقا آخر، يمارس فيه أطباءٌ أقل تأهيلا، في مستشفيات أقل إعدادا، العمل ذاته، ويذهب إليهم المرضى لسببين غالبين هما: السعر المهاود، والجهل المطبق.
إن العمل مع مرضى الكلى لا يمكن أن يترك لأشخاص مهما كانوا، إلا ضمن هيئة قادرة على الضبط حتى لا تختلط الأمور ولا يكون هناك انتفاع مادي. وفي حين لا يمكن أبدا أن تتعامل مع دكاترة كبار مثل "ليكيتي" أو مستشفى عالمي مثل "سينتز لوك" بالعمولات أو المبالغ التحتية، إلا أن هذا قد يحصل مع السوق الموازي، أو أنه لم يوجد إلا لأن العمولات هي السبب الغالب وراء توجيه المرضى إليهم.. طبعا الأحسن: لو توافر الاثنان: المبلغ الأرخص مع الطبيب المؤهل والمستشفى المعد، على أن هذا نادر، أو على حساب المريض بالطرق الفنية والطبية السالبة في التحايل التي ذكرتها في الجزء الأول من المقال.
والحل: أن الحالة القائمة في التعامل الإجرائي مع المرضى السعوديين في مانيلا، وهم كل من يعنوني بالطبع، تحتاج إلى عملية تنسيقية وفنية وطبية ومعرفة شخصية بالحالة الفنية والاجتماعية والقانونية في الفلبين، لأن الأمر متروك بجله للسفارة في الفلبين وهذا عبء كبير وجديد على السفارة، وكنت مع سعادة السفير محمد ولي الذي يريد أن يجد آلية صحيحة لأن ما يهمه في البدء والنهاية هو أن يعود المريض السعودي سالما ومشافى لأهله، ورغم جهوده وأعضاء السفارة إلا أنهم وبصراحة لا يستطيعون لوحدهم. وهناك مكتب لوزارة الصحة يرأسه شخصية رائعة حقا، وهو الأستاذ فهد المصيبيح، واقترحت على السيد فهد أن يتدخل المكتب في تحويل المرضى بالطرق الصحيحة مع الأطباء والمستشفيات المؤهلة، وينسق مع السفارة في مسألة الأموال التي تبعث من أجل علاج المرضى.. وهنا ستستقيم الأمور بدل أن يبقى المكتب فقط للإشراف على التوظيف من الفلبين. وأنا أتوجه هنا لحكومتي ممثلة في وزارتي الصحة والخارجية، أن ينسقا من أجل أن يكون المكتب في الفلبين مكتبا صحيا أيضا، وليس فقط إدارة تابعة للصحة، ومن الناحية الشخصية والخبرة المتجمعة من معرفتي وتعاملي هناك فالسفير محمد والي والسيد المصيبيح يعلمان مدى استعدادي لذلك. وهنا وقت ذهبي ويجب ألا يضيع.
لماذا ذهبي؟
إنه الفريق الممتاز والحالة السانحة، الفريق من سعادة السفير ولي، والدكتور بخاري من السفارة، ومن السيد المصيبيح (وهو مؤهل حتى عاطفيا بحكم أنه فقد والدته الكريمة، يرحمها الله، بسبب ما نتحدث حوله: الفشل الكلوي) ووجود الحالة القانونية الآن في الفلبين.. الآن قبل أن تضيع الفرصة.
الفرصة الذهبية لا تطرق الباب مرتين!