حتى لا يختطِف البرقُ الأسودُ رنا أخرى..

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

رنا الصغيرة وأخوها يلعبان أمام باب بيتهما في الشارع، في العاصمة الكبرى الرياض .. وتتجاوب ضحكاتهما وصراخهما وكأن العالم يمرح معهما، والأهل في البيت، ربما غفلوا، مع أني أجد صعوبة في أن أصدق أن أمّاً تغفل عن ابنيها، ولكن هي الظروف، وهي ملابسات الحياة، وهي اللحظة الحاسمة التي تهوي كبرقٍ صاعق، فلا تترك بعدها إلا نارا في القلوب.

بينما رنا تلعبُ وتجري، كان هناك وحش متربص، ورأسه مستنقع مليء بالأفكار السوداء والخطط النتنة، وقد تكلـّس في قلبه كل نبض بإحساس، حيوانٌ على هيئة آدمي، وإك لتكرّم الحيوانات أحيانا عن شاكلة هذا المسخ. يتقدم بسيارته كذئبٍ يرقب عصفورا وفي لحظة، ينزل البرقُ الأسود، ولا أثرَ للبنت، اختفت.. وبقيت نار البرق الأسود.

نحمد الله أن الأخبارَ تقول إن "رنا" عادت سالمة إلى أهلها، بعد أن أعادها الخاطفُ، ربما للتضييق عليه من قبل السلطات الأمنية، وقد حظيت بمتابعة شخصية من أمير الرياض الأمير سلمان، ومدير الشرطة في العاصمة.

هل هذا يكفي؟ هل تكفي الاهتمامات المكثفة أو الروتينية من الأمن، بأن تقطع دابر الاختطاف الدائر في البلاد؟

مهما عملوا لن يستطيعوا. ويجب أن نعلم قاعدة حتمية أن الجريمة مستمرة، لذا الأمن موجود، وإن انقطعت لانقطع معها الأمن، وبالتالي فهما متلازمان ومتقاتلان، ولكنهما باقيان أبدا، يزيد هذا إن ضعف ذاك، ويضعف هذا إن قوي ذاك.. ثم إن الخطفَ تعدى حالاتٍ شاذة، وربما صار – أو يصيرُ – شبكة منظمة عبر البلاد، هذا ليس غريبا فهو شائع في كل العالم. وكنا في السابق نسجل قلة قليلة من هذه الجرائم، ولكن الآن زادت، وكنا نعرف الدافع الشاذ الوحيد للاختطاف، أما الآن فالخطف صار عملا يدرّ أموالا، كما تدرّ تجارةُ المخدرات، والبغاء، وغسل الأموال، والتهريب.. يكون الطفلُ المخطوفُ سلعة بذاته أو متعدد السلع بأعضائه الحية.. وهي شبكات طابعها التنظيم، وهم مجرمون صفتهم دائما اليقظة واقفون على أطراف أصابع أقدامهم دائما يستعدون للانقضاض كالبرق الأسود.. وبما أننا عرفنا – يقينا – أن السلطات الأمنية إن نجحت مع "رنا" فلن تنجح مع كل من يُخطـَف، ولا كل من تـُختطـَف.. وهنا أحمل المسؤولية الأولى والأخيرة – بدون رفع الواجب الأمني بالطبع عن الأجهزة الأمنية – على الأهل.. نقطة آخر السطر.

في بداية العام الدراسي، وفي صبيحة جمعة، خرجت مع زوجتي صباحا بالسيارة، وكانت الشوارع خالية تقريبا، ولا تسمع إلا صوتَ نوارس البحر تدور في الجو، وفجأة وكأن الأرض شقت عن طفلٍ لا أظن أنه تعدى الصف الابتدائي الأول، وكان يسير هائما وحده، في منقطع، في شارع عريض خال.. لم نستطع أن نبعد عن الطفل فرحنا ندور حوله، لعلنا نرى كبيرا ينتظره، أو يعود إليه، ولكن لا أحد، والطفل مطأطأ الرأس ويسير بلا اتجاه. أوقفت السيارة أمام الطفل، ونزلت لأسأله، وامتقع وجهه وارتبك وغارت عيناه، وضربه عارضٌ عصبي من الخوف والحيرة، تعبتُ حتى أهداني كلمة واحدة، وكان يتعمد ألا يقول لي شيئا مفيدا إما حرصا أو خوفا.. نظرت فإذا بنطاله مبلل، هل لما رآني وقفت؟ أم لأنه لم ينجح في فك بنطاله لقضاء حاجته؟ فقد كان صغيرا، وقامته ضئيلة.. قلنا له: لن نمض إلا إن أعلمتنا من أنت، وأين تسكن.. أخبرنا أنه في حي في الدمام يسمى حي الإسكان، يبعد سبعة كيلومترات عن المكان الذي لقيناه فيه، وسألناه: وإلى أين أنت ذاهب، قال: البيت. حملته للسيارة وهو متصلب كقطعة خشب جافة.. وخفت أن ينهار عصبيا، ولكن لا حيلة لي، ليس هناك أحد، ولم تكن معنا هواتفنا.. أخذنا له آيسكريما، ثم هدأته زوجتي وأنا حتى أخبرنا أنه ذهب مع أخيه للمدرسة لرحلة في يوم العطلة، وأن أخاه لم يسمح له لما وصلا أن يواصل معهم، فتركوه.. إهمال من الأهل، ومن الأخ ( الذي قد يكون صغيرا لا يلام) ومن المدرسين.. أعدناه للمدرسة ولم نتحرك، إلا لما جاء والدُه وهو في حالة خوف وارتباك لما عرف أن ابنه أمضى ساعة يتوه وحيدا.

في اليوم نفسه، عصرا. مع أخي نمشي داخل الحي للمسجد، ووجدنا رضيعا بالكاد يمشي، ولم نعرف منزله إلا بعد أن طرقنا أكثر من عشرة أبواب.. ولم يأبه أحد، والمرأة التي مدت يدها وانتشلته نشلا، لم تسمعنا إلا ارتطام الباب.

في مساء اليوم نفسه، جاءنا رجل من الجالية الباكستانية يحكي عن أستاذ جامعي في المنطقة خطف ابنه ولم يجده.

وهنا أقول إن الأجهزة الأمنية لن تغلق لك بابـَك حتى لا يخرج طفلٌ رضيعٌ منه، ولن تتابع ولدا لتوه خرج من منزله، أو من مدرسة، ولا طفلة تخرج لتتبضع من بقالةٍ صغيرة تبعد مائتي متر عن بيت أهلها.

فها أنت ترى في يوم واحد ما جرى .. مشاهد متكررة. إذن، لا عجب أن يزداد الخطفُ، ما دام بعضنا يتصورون وعيا، أو بلا وعي، أننا ما زلنا في وقت ننام فيه وأبواب بيوتنا مفتوحة.. الحقيقة أن من يعتقد أن طفله وطفلته سالمان تماما في الشارع فقلبه ووعيه قد ناما.

.. ولم تبقَ في غاية اليقظة إلا عيون البرق الأسود!