يا أستاذ: تلاميذك يمامٌ أم سمك البيرانا؟

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

سألني المعلم عبد الله حاسن(*)، سؤالا أحببت أن أحاول الإجابة عنه أمام الجميع في هذه الجريدة الذائعة، ليس ضمانة مني أن إجابتي ستكون صائبة أو شافية، ولكن اعتقادا مني أن السؤال كما يقول الشباب الآن: "رهيب!".

وليست هذه "الرهابة" فقط في ندرة السؤال ولطيْفٍ خطر في ذهن معلمٍّ شاب، ولكن لأن الموضوعَ قد يكون يطرق لأول مرة في "الآلية التعليمية"، أو حتى لا أتعدى، فأول مرة في حياتي أفكرُ في موضوع كهذا، أو أن أحدا سألني مثل السؤال، أو قرأتُ أو سمعتُ عنه.. وهذا يعطيني رأيا أطمئن إليه بقلبي وضميري وعقلي، بأن المعلم الشاب عبد الله، سيكون يوما من أفضل المدرسين، ولو كنا نحتفلُ بالناس النابهين في العملية الفردية البحتة، لربما يصير السيد حاسن يوما أستاذ العام.

أما سؤال الأستاذ عبد الله حاسن: " أنا معينٌ جديد، ولأول يوم سأسير فيه إلى فصلي في مدرسة (...) الثانوية، هو الغد، وأتصور أني بينما أسير في ممر المدرسة متجها إلى صفي سأسائل نفسي بحيرةٍ شديدةٍ، كيف سأدخل على الطلاب؟ بأي هيئة؟ باسما، عابسا.. أم جادا؟ وكيف ستكون ردود أفعال الطلبة؟ وكيف سيكون رد فعلي؟ هل لك أن تجيبني؟. "نعم يا أستاذي الشاب سأجيبك، من قلبي ومن عقلي، ليس لأني أملك الحكمة، ولكن لأني استسغتُ السؤالَ حبا في معلم مثلك، وحبا في أجيال أتمنى لها معلما مثلك. إليك محاولة إجابتي:

تقصد شيئا مهما، بل بالغ الأهمية وهو أنك تريد أن تخلق الانطباع الأول والأخير أمام الطلبة وبنجاح كما تريد، كي يتحقق لك احترام الطلاب، وضبط سلوكهم، وفي الوقت نفسه تريد منهم أن يتعلقوا بشخصيتك كي يتعلقوا بدرس مادتك، وهذا هو ميزان التعليم. وبالفعل فإن حدسك صحيح، فإن اللقاءَ الأولَ بين الناس، أيا كانت فئاتهم ومستوياتهم عادة ما يكون لقاءً حاسماً ومصيرياً، وقد يبني نوعية العلاقة إلى النهاية. بل إن الطريقة التي ستحيي بها تلامذتك من المرة الأولى ستجعلهم يسقطون حكما نوعيا عليك. وهذا الحكم من الطلبة، والانطباع الأول قد يؤثر تأثيرا مستمرا على كل مسيرتك المهنية.

هؤلاء الطلبة في المرحلة الثانوية، ليسوا كائناتٍ بسيطة، بل هم نوعية بشرية حذقة، كل أجهزتها لتوها في مرحلة اللمعان، التروس الصقيلة داخل عقولهم وذائقتهم تعمل بطاقتها القصوى، يلاحظون اللحظة التي تمرّ برقاً ويفصلونها، يتصيدون هفوةً في أقل من انطباقةِ عينٍ ويسجلونها في مخزونهم الذي سيحكمون به على أساتذتهم، وبالتالي كيف يتصرفون إزاءه .. إنهم يراقبونك، ويراقبونك بدقة عين صقر جاهز للانقضاض.. إن لم يفكر الأستاذ الجديد لأول مرة بهذا الدرع التحذيري، فستنهشه الطيور الصغيرة، ولكنها جارحة.

إذن، لا بد أن تعلم جيدا، وبإدراك مماثل أنك هنا تتعامل مع مراهقين، وليسوا أي مراهقين، ولكن مراهقين سعوديين، وعليك أن تعرف ما الصفة التي يكون عليها كل مراهقٍ من ناحية فورة الهرمونات، وصخب الطاقة، وعدم استقرار مؤشر البوصلة، كما عليك أن تعرف الصفات التي يتصف بها المراهق السعودي بما تقولبه عليه البيئة.. والوقت، والطبيعة. فتأكد أنهم جاهزون للانقضاض، فقط أعطهم واحدا من المليون على الفرصة وسترى كيف سيكونون مثل سمك "البيرانا" الصغير الرعاش الشرس في الأنهر الاستوائية.. وبعض مراهقينا منكفئون خجولون كأودع اليمام، ولا تظن أن هؤلاء أمل سعيد، فهم أيضا لهم إشكالاتهم: منهم، ومن زملائهم، ومن مدرسهم.

لذا إذا ظنّ المعلمُ وهو داخل الفصل أنه سيكون الرئيسَ المتحكم تلقائيا، فأرجو، ومن أجله أن يعيد التفكير، مرات!

لذا عليك قبل أن تدخل أن تأخذ الصمتَ المناسب الكافي للاحترام، وليس المبالغة في التيبس فتكون مادة لرجم النكات، والمحاكاة والتقليد. وعليك عندما تدخل أن تقول لهم من أول وهلة أنك سعيد بأنك بينهم، وأنك سعيد لأنك ستساهم في بناء مستقبلهم، وأنك ستبذل كل ما عندك من معرفة وخبرة وتحصيل من أجل أن تضعهم على سلم المستقبل الواعد. ثم خذ وجها معبرا الآن وقل لهم: ولكني مستعد أن أقاتل وأناضل وأقاوم وحتى أهاجم إلى الرمق الأخير لو حاول أحدٌ، أي أحد كان في هذا الفصل، أو على وجه الأرض، أن يسرق سعادتي مني، أن يسرق مستقبلكم مني .. هنا سأكون المحارب الذي يدافع عن حياضه. فنحن الآن مخيرون إما أن يكون هذا الفصل بفضلكم حديقة غناء نمشي في طرقاتها للمستقبل سعداء ناجحين، أو يكون هذا الفصل ساحة معركة، بفضلكم أيضا، وتأكدوا أني مستعد أن أبذل دمي، لأجرجركم ولو من جلودكم سحبا إلى الطرق التي تضعكم على عتبة المستقبل اللامع، وعليكم أن تتأكدوا أيضا من هذا الفصل ليس فقط هو منطقتي التي أرعاها كما أسقي الزهور، أو أناضل من أجلها حتى لا تجف الزهور، بل ستكون معي أينما ترونني، في الممرات، في الساحة، وحتى في الطريق العام.. خياران لا ثالث لهما.

ثم استدر بحثا عن السبورة والطباشير، واكتب اسمك بالكامل.. ثم التفت إليهم قائلا: هيا أيها السادة.. عرفوني بأنفسكم.

عندما تخرج للممر من الفصل بعد نهاية الحصة، فإن شيئا واحدا لن يخرج أبدا: الانطباعُ الذي تركته!

(*) ليس الاسم الأصلي.