سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
نعم نسميهم الفئة الغالية علينا حتى صرنا نرددها ونعتقد أن ضمائرنا ارتاحت لأننا قلنا الكلمة كلما جاءت اسما مناسبا، ثم نرتاح!
علينا أن نؤمن أن هذه الفئة هي فئة متميزة، لأن الله من عدله الأسمى التعويض، وهذا معروف جدا في علم الفسيولوجيا ومن استهلاك الحبر أن أعيد تفسيره لعقلاء أمثالكم. البعض منهم تفوق حتى على القدرات العادية الإنسانية بمراحل، فلا يمكن أن يقدم إنسان بكامل وظائفه الحيوية ومنها النظر، دراسة لأبي العلاء المعري بسهولة وهو من قلب الصعيد بفرنسية هوجو، ومن يعرف الفرنسية سيذكر قول الأكاديمية الفرنسية المسجل في الوثائق بأن طه حسين بلغته السامقة الفرنسية أعاد في بعض السطور روعة ونصاعة أسلوب لامارتين.. هذا يفوق قدرة الإنسان العادي حتى في ظروف التقنية الحالية، و"هيلين كيلر" أسطورة، بل أيقونة العصر بكامله لقدرات البشر لما تتخطى حدود المعقول. إذن الذي يفرق بين البشر ليس الأعضاء ووظائف الأعضاء أو عدم عملها.. بل الذي يفرق بينهم درجات حقيقية وقابلة للاحتفاء الحضاري التاريخي هو قوة الإرادة في الشخص، والإرادة لا تلتزم عضوا. إنها قدرة تفوق عضلية الأعضاء.. وبكثير!
كل هذا دار في خلدي وأنا أزور المسؤولين عن مدرسة شموع الأمل في الدمام، وهي مدرسة كما أُبلغت الأكبر من نوعها في المنطقة، ويحرص المهندس عثمان الدبيخي مديرها التنفيذي أن يقول إنه يعدها فوق تكاملها التقني لمساعدة الفئة المحتاجة إلى أن تمارس قدر المستطاع الحياة العادية باستقلال أكبر، يعدها أن تكون مدرسة بقلب، وهذا القلب ليس دوره أن يشفق على هذه الفئة، بل أن يحترمها، ويحترم حقها في الحياة، ويقدر أنها تملك قدرات قد تتعدى تصور أقرب الناس إليهم.. لماذا؟ لأنهم مهما أحبوهم، إلا أنهم – وبصراحة مؤلمة – لا يرونهم مكتملين، بل إن البعض وأنا أعرف من هم من هذه الشاكلة يخفون أبناءهم ويعتمون على وجودهم في الحياة حتى لا تنالهم وصمة من الوصمات، وكنت قد استلمت رسالة من فتاة تقول إن أهلها يمنعونها من أن تتكلم مع صديقاتها عن ابنهم الذي يعاني من عوارض التوحد، لأنه قد يؤثر في مستقبلها ومستقبل أخواتها في الزواج.. البنت تقول لي إنها تتمنى أن تتحدث عن أخيها لأنه في غاية العبقرية واللطافة، ولكن كأن هذا الطفل وجوده سيقطف حياة أخواته البنات، ولا أرى ظلما أكثر من هذا ولو قيل لي مليون مرة أن دوافعه الحب. وهذا تماما ما يريد أن يطبقه الدبيخي في مدرسته.. أن نؤمن بأنهم فئة يملكون حق الظهور في الحياة، ولا يجب أن يكونوا دوما معلقين مثل كيس رملي على أكتاف الأهالي، ولكن يتيح لهم دوائر الاعتمادية على الذات، فيستقلون هم، ويتخفف الأهل.
ولكن - وهذه "ال.. لكن" كبيرة جدا - المجتمع لا يعرف إلا أن يقول هذه الفئة الغالية علينا فقط، ثم لا يعملون ما يؤكد هذا الحب. لقد عانى الدبيخي من البيروقراطية، وسهو المجتمع، وسوء فهم فظيع للقضية برمتها حتى من المفاهيم الرسمية، وكنت أقول له إنه يجب أن تقيم مدرسته علميا، خصوصا بما يصفها بأنها تقدم المفهوم الريادي الحقيقي لمعنى التعامل العلمي لأنواع الإعاقة، وهذا التقييم إن لم يحصل في الداخل فلا بد أن يحصل على عضوية وتقييم من الخارج.. وأن الحكومات تساعد هذه المدارس بتقديم مكافآت مجزية. لم يجبني الدبيخي إلا بشيء واحد أنه لا يستلم شيئا يذكر، وما وُعد به قليل جدا ولم يصله.. في حين أن دولة مدقعة مثل سريلانكا إن أقام أحدٌ مدرسة مثل شموع الأمل تكفلت الحكومة بنصف رواتب العاملين.
أريد وأتمنى من الجهات المعنية الرسمية في الدولة وغير الرسمية أن تذهب وتزور المدارس والمعاهد المشابهة لمدرسة شموع الأمل، فبينما جاءتهم وفود من الخليج لم تزرهم فئة رسمية من هنا عدا الشركات، رجاءً إن كنتَ مسؤولا حكوميا أو مختصا وقرأت هذا المقال فإني أتمنى عليك أن تهاتف الدبيخي وأمثاله من المهتمين بأولادنا الغالين الذين "منّ" الله عليهم بحالة جسدية أو عقلية في الحال وترى ما لديهم.. وعلى الدبيخي وأمثاله المهتمين بهذه الفئة التي لها علينا أكبر المسؤوليات والحقوق، أن يخرجوا للإعلام ويشرحوا لنا.
لماذا أصدق أن الدبيخي يحب ما يعمل، بل ويتفانى به؟ أنا أقول لك بالرد النهائي: لأن ابنه عبد الرحمن خصه الله بمرض انتكاسي شديد الإعاقة، وكان عبد الرحمن هبة كبرى ليس لوالديه بل لنا كلنا لأنه السبب في أن يكرس والده المحب حياته من أجل خدمة حقيقية وعلمية متفانية من أجل هؤلاء المميزين. نعم مشروع خاص ولكن من هو الذي يحلم بالأرباح ويفتح مدرسة مثل هذه لا تجني ريالا سريعا وتجرف ملايين الريالات برمش العين.. إلا من يرون أن المالَ طريقٌ، وليس محطة وصول. له، وللمشاركين معه هؤلاء الأفاضل من رجال الأعمال الذين اختاروا طريقا صعبا بلا أرباح مادية – سريعة على الأقل – كل الامتنان ونقول لهم: نفخر بكم.
السطر الأخير: ألا نعتقد بأن أولادنا حين يصيبهم نقص وظيفي أنها محنة من محن الحياة.. ولكن أن نؤمن، إذا خصنا الله بواحد منهم، أنه نعمة تـُثري الحياة!