سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. "وودي ألن" المخرج النيويوركي مشهور جدا، وهو ظاهرة بشخصيته الفاقعة الآراء والسلوك. له فيلمٌ مشهورٌ قديم، ويعتبر تحفة فنية لدراسة العمق الإنساني مع العالم الخارجي حين يختل الإدراك. والفيلم بطله رجل منطوٍ، مصاب برهاب الناس، فلا يخرج من بيته من صغره، وتعلق تعلقا مرَضِيا بجهاز التلفاز. بيده الريموت كونترول يتحكم في المحطات كيفما يشاء، ويوقف المشاهد التي يحب، ويعيد المشاهد التي فاتته.. خرج يوما للشارع، وتعرض لتحرش من شخص بلطجي يريد أن يعتدي عليه، وحين رفع الشقي يده ليضرب، ماذا فعل صاحبنا ليدافع عن نفسه؟ .. ضغط على جهاز الريموت ليوقف المشهد المخيف!
وليكن السيد "متحكم" هو بطل قصتنا نحن اليوم، الذي بقي أكثر من عشرين عاما في بيته، وخرج للشارع في يوم لما جافاه النعاس، وبيده خدنه الذي لا يفارقه أبدا.. الريموت.
مشى صباحا في أول يوم من أيام الأسبوع، وكان يسير بجانب البحر، والهواء رخي لطيف، والماء أزرق مثل عقد التركواز، فأخذ الريموت وضغط عليه ليوقف المشهد، وظن أن الريموت قام بأداء ما أراده.. ومضى سعيدا يطلق صفيراً لأغنية مشهورة في عالمه التحكمي : "ما نتب ريموت أكثر.. ولا أنا مشهد أصغر".
لما وصل لقطع الحشيش الأخضر، خرجت عيناه بزنبرك من مقريهما، فبالكاد رأى اللون الأخضر، فقد كانت بقايا الناس من البارحة أكواما تغطي البساط الأخضر، وتناثرت القاذورات وبقايا الطعام في الوسط وفي الزوايا والأركان.. ياخ! تبرم "متحكم" وانقلبت عليه نفسه، وانزعج كامل نظامه الهضمي والذوقي، فأخذ الريموت وحاول أن يغلق المشهد.. ومضى معتقدا أن المشهد قد أغلق، مصفرا بترنيمة لأغنية مشهورة في عالمه التحكمي: " يا رب ما تحرمني منـّه، ويمسح المشهد اللي يغِمّه.."
حاول السيد متحكم أن يضغط على زر الإعادة في الريموت ليعيد أياما كانت النظافة فيها من طبائع العباد، تمشي فيهم كما يسرى الدم في عروقهم، غير أنه ضغط، وواصل الضغط بلا طائل.. وقال لنفسه: "إن عليه أن يصلح الزر في أقرب فرصة..".. همهم بغمغمةٍ حزينة: "ليه يا مشهد تجافيني.. ما كفاك كل اللي فيني.."
ويبدو أن الطريق الذي يسير عليه "متحكم" كان مليئا بالحفر والمطبات والتحويلات، وكأنه ساحة معركة لعجلات السيارات، ولم يعجبه المنظر، فسار بعد أن ضغط على زر الإلغاء، معتقدا أن مشهد الطريق المهترئ المرقع قد أُغلق نهائيا، فمضى دون أن يلتفت وهو يطلق صفيرا مموسقا لأغنية مشهورة في عالمه التحكمي: " يا ماشي في عرض الطريق، مين مشاك من غير رفيق.."
وحاول مرة أخرى أن يضغط على زر الإعادة فيما عرف عن حال الطرق منذ عشرين عاما، لما كانت بساطا من الحرير الأسود، على أن زر التحكم قد تبلد عن الإجابة، وندب حظه أن الزر تعطل خارج مدة الضمان.. وهمهم بترنيمةٍ حزينة: "زري يا ناس عاداني .. بعد ما كان أقرب خلاني.."
عند مدرسة حكومية وقف "متحكم" يتأمل الجدار الكثير الحفر، والذي صار بلا لون من الشمس والغبار، وجدول الصيانة الذي أكلته في ليلةٍ سوداء "سعلوّة الظلام".. ثم أشرف فوق السور ورأى بنيانا متهالكا، وأبوابا شاحبة، ونباتات جافة، ومكيفات صدئة، وأسقفا متدلية لا بفعل الجاذبية وإنما بفعل جدول الصيانة الذي بلعته السعلوة. قبل عشرين عاما كانت المدارس بنظافة فندق خمسة نجوم، وجدول الصيانة يقرب لحدود الإجلال والقداسة، ودورات المياه تفوح عطرا، وكراسي الطلبة تلمع كخشب ما هو جنى لـُمِّع بشمع التلميع الأصلي.. وكانت مدرسته تدار تشغيليا وصيانة من قبل شركة كبرى تكتشف الزيت ثم تبيعه. ضغط على زر الإقفال حتى يختفي مشهد المدرسة المتداعية المهملة، ومضى ظاناً أن المشهد قد تم إغلاقه، فراح يترنم بصفير لأغنيةٍ مشهورة في عالمه التحكمي: "يا حبي للمدرسة.. فيها كتاب ومكنسة.."
ولما أوحت له الأغنية بالأيام الجميلة التي غبرت، راح من يأسه يدوس على زر الإعادة، هو يغني بهمهمةٍ حزينة: "صار فيني غفلة وبلادة، وأنا أشغل زر الإعادة.."
لما رأى مبنى جميلا، وقد توسدت الشمس الركن الشرقي من السماء الصافية، وراحت تزيد من لفح حرارتها درجة وراء درجة، منّى نفسه أن يدخل كي يتبرد ويرتاح قليلا.. إلا أن شابا يحمل سيماء بلده أوقفه قبل أن يدخل ومنعه، فحسبه شرطيا، ولكن الشاب أخبره أنه "حارس" وتعجب أن تكون وظيفة حارس قد تغيرت وصار لها زي رسمي مثل الشرطة وبلون مختلف، في أيامه كانت وظيفة لكبار السن على بوابات مدارس البنات، ولم تكن تـُحرس البنايات. حاول إلغاء منظر أن يكون شابا سعوديا مجرد حارس، وهو في عنفوان عمره ولا يترقى عنها أنملة ولو تراكبت القرونُ فوق بعضها.. وتعجب لما عرف أن هذا بتشجيع من حملات رسمية.. فأراد إلغاء المنظر.. ضغط على زر الإقفال، ومضى دون أن يلتفت، سعيدا، ظانا أن مشهد الحارس قد أُغلق، يطلق صفيرا موزونا لأغنية مشهورة في عالمه التحكمي: "عيني عليك يا الحارس، بدلة فرغوها من فارس.."
والمناظر كثيرة تريد إلغاء أو إعادة، ولكن "متحكم" أراد أن يصلح زر الإعادة، فقرب الريموت إلى أذنه هو يهزه.. مرّ شابان على دراجة نارية فخطفا الريموت من قبضته.. حاول أن يلغي المشهد.. ولكن لم تبق إلا يده.. وحسرته!
المشهد الأخير:
الشاب السارق يرفع عقيرته لصاحبه بأغنية معروفه في عالم الحرامية: "حبيبي إنت "يا بن الحلال".. يالله نروح نبيع الجوّال!!"..