القـُرّاءُ مُخيَّرون: للكـُتــَّابِ فقط!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

لا بد أن بعض الكُتـّّابِ يعانون، وبعضهم في أزمة. وهم الكتاب الذين يغرفون من قلوبهم وضمائرهم ويقدمون الكتابة للناس مسؤولية كبرى يحاسبهم عليها الديـّان. ولا أعني الكتاب الذين لا يكتبون إلا لمصالحهم، أو شهرة رخيصة تطير مع أول شعاع حقيقة، أو كتابة تزلفية سطحية، أو كتابة هجوٍ وذم وانتقاص متعمد، لا تتنفس هواء نقيا فوق السطح. إنما كتـّابٌ تؤرقهم أفكارُهم.. وتقضّ مضاجعَهم.. خصوصا في ما يدور هذا الأيام وما نرى من أزمات وتقصير وارتفاع في مستوي الجريمة، وهزة كبيرة في الثقة بين الناس وبين من يقومون على خدمة الناس، ثم هذه الأحداث الكبرى التي تتربص بالبلاد ليل نهار، في الخفاء وتحت النور الغامر.

كيف يكتب الكاتبُ قلبـَهُ، كيف يضعُ الكاتبَ أفكارَه من عقلِهِ دون محاذير، دون خوفٍ، دون تردد، من أجل مسؤولية مهمة، ليست منصبا، ولا مالا، بل أهم. مسؤوليةُ القلم الذي من الممكن أن يحرّك آلافَ القلوب، ويعيد صياغة أفكارَ آلاف العقول.. وبقوةٍ لا يتخيلها حتى هو، وهو يكتبها، كيف يمكنه أن يخلط الواقع بالحقيقة، أو الوهم بالمعقول، فيتعدى أثره مدى تصوره. وهذا الموضوع بذاته يقلقني، ويجعلني دائم التفكير. هل المقصود ملء الصفحة، وإرضاء جدول الطباعة؟ هل نكتبُ لأننا فقط يجب أن نكتب، إن كنتُ مربوطا بجدول زمني، فهل أني أمسك القلم ثم أفكر قسراً، أم أن الصواب أن أفكر ثم يتخمر الفكر، ثم ينضج ثم يلح من ذاته وبقوة تدفعه أن يسقط من العقل كالورق .. تماما كالثمرة التي نضجت ثم طلبت فلاتاً من الغصن إلى الأرض؟ من الصعب الإجابة عن هذا الموضوع الدقيق، ولكن ليس صعبا أن تضع المبادئ، وتتحرى العدل.. وتتلاءم مع الذائقة العامة، لا لتصير أسيرا لها، ولكن كي تقبلك ثم تسلم لك القياد لتصعدا معا إلى مفاهيم أعلى وأنقى وأعدل.

إن الكتابة الحقيقية مواجهة صعبة يومية وحتمية بين ما يريد الكاتب في داخله الصافي العميق، وما يريد منه الخارج بمختلف أنواعه، وقواه، وتأثيراته .. والأهم فهمه .. وهنا أتوقف للطافة الدافع وتعقيده معا.

يصر الكثيرُ من على فهم وجهٍ واحدٍ للحقيقة، وتستغرب أن أكثر الأمور منطقية وقبولا عقليا هي التي تستلهم شرارات الاختلاف، ويجري المثل العام باختلاف الأذواق في السلع، وفي الانطباعات أمام حقيقية مادية واحدة، ويرون أنها من طبائع السلوك والخلاق وانسياق حياة الناس اجتماعيا واقتصاديا وعقليا.. فنقول لو لم تختلف الأذواق لبارت السلع، ونقول أن ما أراه جميلا قد يراه غيري محفزا للنفور، وما أستطعمه بلساني قد يكون مُرّا علقما، أو قالـِبا لمعدةِ غيري، ولا نتخاصم حول ذاك.. وعندما نرى حقيقة فكر جار بينا، أو مظهر سار في المجتمع من عادات أو أعراف، أو حقيقة قرار أو مسلك إداري عام، ثم نقول أنها تستجلب مثل غيرها أكثر من وجهة نظر، رغم حقيقتها، تثور أنفسٌ هنا، وترضى أنفسٌ هناك، وتتطور الثورةُ مع الرضى لتكون صداما.. والحقيقة واحدة، ولكن لها أكثر من وجه، أو أننا بحواسنا التي زودنا بها نرى الحقيقة كما تفرضها ذائقتنا، وكما تترجمها عقولـنا، وكما يفسرها فكرُنا، وكما ترتاح أولا ترتاح لها حواسنا. وهنا يأتي الدور لمهم للكاتب أن يوضحه ويقوله بلا مواراة. ولكن يسود غالبا ما لا يفرضه المثال في المبدأ، ويبدأ المفكـّر أو الكاتب بإعادة "وزن الأمور"، ضمن معطيات الواقع، لا ليسهم في تغييره، ولكن كي يعرف كيف يمر ورأسه محمي من حجر الغضب.. أو الأسوأ.

إن فكرة إغضاب الأقوياء أو الجموع دوما كانت سيفا معلقا على رقاب الكتاب، البعض يراه سيفا سيزيفيا مرعبا قد ينهال على رقابهم فيكتبون خوفا وحذرا من الانهيال، وآخرون يرونه مجرد سلاح، وعليهم إما أن يستخدموه، وإما أن يثاقفوه.

وبعض الكتاب مثل القراصنة يجوبون بحار الكتابة بحثا عن جزائر الكنوز، أو النهب في عرض البحار. وبعضهم يغيّرون خريطة الفكر العام، فيجوبون البحارَ كشفا لطرق بحرية كي يصل كل الناس إلى غنائم الجزر .. والفرق واضح. والكاتب هنا يتضح أمام الناس إن كان قرصانا، أم كشافا ودليل طريق.

ويجب أن نقر أن للحقيقة وجهاً سرمدياً، خالداً، ولا يتغير ولا يتبدل، وهي الحقيقة العليا .. حقيقة الإيمان بالله وشرع الله. ووجوه حقائق تتبدل وهي القضايا السياسية والإدارية، والاجتماعية، والعادات والأعراف، والسلوك والممارسة. ونعرف أن لكل شيء من هذه الأشياء تفاسير وقد تمضي هذه التفاسير على الجموع من الناس، ودور الكاتب الأهم هو التأكد من أن ما فهمه الناس فـُهم كما يجب أن يكون بمثاله وعنصره ودافعه، وليس كما صُـوِّرَ للناس كي يفهموه أو يقبلوه، أو حتى يقايضوه بـ .. السلامة! فهذا النوع من السلامة قصير الخيط، ضعيف النسج ينتهي ويتهتك سريعا .. وعلى الكتاب الحقيقيون أن ينسجوا حبلا قويا شديد النسيج لتبقى السلامة. سلامة الأمة، تسبق سلامة الفرد، أو فئة من الناس، ومن صالح هذا الفرد، أو تلك الفئة من الناس.

ثم على الكاتب أن يواجه موجة أخرى وعاتية، وهي أمزجة الناس. والكاتب واحد من الناس.. ولكن ليس اليوم، ربما في يوم آخر.

في النهاية، وفي البداية.. الكاتب مخير بين أن يكون كشاف طريق، أو قرصانا يسرق الطريق!