سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. كلما فكرت في تعميم صفة على شعب أو مجموعة، تبادر إلى ذهني هذه المشاهد ..
***
كنت في تركيا .. وكنت أستقل إحدى الحافلات العامة، وكانت هذه المرة الأولى لي في حافلة عامة خلال رحلتي هذه إلى تركيا، سألت الشخص، التركي بالطبع، الذي يجلس أمامي، عن سعر الركوب في الحافلة، لاحظ الشخص غربتي، فلما أراد السائق أن يعيد لي الباقي من المبلغ الذي دفعته، بادر الشخص الذي كنت قد استفسرت منه إلى دعوة السائق إلى الاحتفاظ بباقي المبلغ معه، وعدم إعادته لي، وكنت أستطيع فهم بعض التركية نتيجة ترددي على إسطنبول من حين إلى آخر. صورة تجعلني أتردد فعلاً في التعامل مع أي تركي في المستقبل.
هنا حدث آخر.. في يوم ثان، وخلال الرحلة ذاتها، كنت في حافلة أخرى، كنت أعرف المبلغ إلى المحطة النهائية، ولما كنت لا أعرف اسم الحي الذي أريد النزول فيه، فقد قلت للسائق اسم المحطة الأخيرة، ودفعت قيمة الذهاب لها، وحين أمر بالمحطة سأطلب من السائق التوقف، وأغادر. اقتربت من المحطة التي أريد، سألت أحد الركاب – الأتراك طبعاً – عن إن كنا وصلنا إلى محطتي، وعرّفتها له بأحد معالمها، فقال – وكان قد سمع حديثي مع السائق – : "هذه المحطة قريبة، لماذا إذاً دفعت قيمة المحـطة النهائية؟". قلت : "أعرف ذلك، ودفعت، وأنا راض". لكنه لم يرضَ، وأسرع، تطوعاً أيضاً، إلى السائق، وأخذ باقي المبلغ، وأعاده لي، ثم أخبرني أن محطتي بعد قليل، وردد عليّ أكثر من مرة، باهتمام عالٍ، أننا اقتربنا، حتى وصلنا، وقال لي: هذه محطتك .. ودّعته وغادرت.
أي من الحدثين يمكن تعميمه كصورة نمطية على الأتراك ؟
وكان لنا حينٌ نتردد فيه على تركيا، حتى إن الوالد - يرحمه الله - بنى منزلا هناك، في ضاحية من أطراف إسطنبول اسمها (ترابيا) تطل على البوسفور.. ولقد دخلنا، وكنا مجموعة، مع شباب أتراك في قضية علمانية تركيا، فراح الشبابُ متحمسين يشيدون بمصطفى كمال أتاتورك وكادوا يجعلونه شبه إله، بل أضافوا أن العنصرَ التركي فريد في العالم، وأنه يجب ألا تختلط ثقافته بشعوب أقل منه. إنها التعاليم العرفية التي تناقلتها الأجيالُ بعد أتاتورك. فهل هذه هي تركيا علمانية حتى النخاع؟ وهل هذا هو الشعب التركي يسلخ نفسه سلخا عن الشعوب التي جاورته وجاورها؟
أما الوالدُ فقد صار يمضي وقتا طويلا في ترابيا، واختلط مع ناسها، ولما ذهبنا معه مرة، وجدنا أن المسجد الذي يصلي فيه يغص بالمصلين كبارا وصغارا، وتعرفت النساءُ في عائلاتنا على شابات وسيدات تركيات صارمات التحجب لم نكن نرى طرفا منهن، وحسبنا أننا عدنا إلى تركيا أخرى، ينضح الدين الإسلامي في رؤاها، ويجري التدين في دماها. وما زلنا نعرف السيد رمضان الذي تعاملنا معه سنين تجاريا دون أي ورقة أو تبادلات بنكية لأنه يحرمها تماما، فكان يرسل بضاعته ثم نحول له ماله، وهو خريج أزهري يزدحم محله الكبير ومجلسه بتلاميذ يذكرونك بحلقات الغابرين.
أي من المشهدين يمكن تعميمه كصورة نمطية على الأتراك؟
وصلتني ببريدي رسالة معمّمة عن طرفة تقول:" أعجب الأشياء أن تجد مصريا لا يبالغ في الكلام، وقصيميا لا يتدخل فيما لا يعنيه، وسودانيا نشطا، وتركيا متعلقا بالمسجد.. ولبنانيا يدرّس الفقه". وترى أنها نمطيات جرى عليها الناس، حتى صارت من المحكيات الشعبية ولو سارت كالطـُرَف، فأنا شخصيا، وزملائي، في مدرسة الدمام الثانوية درّسنا الفِقهَ أستاذٌ فاضلٌ لبناني ما زال أثره باقياً فينا، واسمه محمد الغول. ولنا صديق مصري اسمه محمد فتحي نضع عنده المال نقدا، ويحفظه عدّا ولا نحفظه، وما عهدناه إلا قليل الكلام حيي، جم الأدب، أما عن كون السودانيين غير نشطين فما عرفتُ سودانيا واحدا غير نشط البتة، والدكتور عز الدين سوداني من الأطباء المرموقين في مستشفى كبير بالشرقية، ويسمونه النحلة، لأنه لا يقر ولا يستقر، وأين يذهب ينثر عسل العلم والعمل.. أما القصيمي الملقوف كما تقول الصورة النمطية، فلعل غيري يتصدى لها!
كل ذلك كي نأمن من شيوع الصورة النمطية، لأنها تبني الصورة المسبقة عن الناس، وعلى التعامل بين الأفراد، وتبث العداء، والحذر المتوهم، والظلم الجائر.. وأن نصل لحقيقة أهم، وهي أن الآخرين يميلون إلى تنميطنا أيضا، وهو نمط على غير ما نحب، فلا يبقى إذن إلا أن ننزع الميلَ المتزايد للتنميط، ونؤكد على خلق التعامل الفردي واللحظي، وأن الناس يتجاوبون معنا انعكاسا لتصرفاتنا معهم.. كما أني لا أجد هنا أفضل من القول الشائع، والحقيقي جدا: "أصابعك مش سوا"..
.. ولو كانت أصابعنا متساوية لما قامت اليدُ بما تقوم به الآن. وكذلك الناس!