عظيمة يا أرامكو

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

*"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"

.. الآية الكريمة استهللتُ بها هذا المقال، ليس فقط تذكيرا عن مدى تحريم أكل مال اليتامى، فاعتقادي الذي أطمئن إليه، توضح أمرين مهمين اثنين، أولهما أن تحريم أكل مال اليتيم هو من أشد ما حرم الله، والثاني استنتاجا من الأول أن اللهَ يحبهم، وأن الرسولَ يحبهم.. إذن من واجب كل مسلم أن يحبّ اليتامى، والحب يعني العناية بهم وهم صغار حتى تمتلئ قلوبهم بالعاطفة التي تعطي التوازن بالحياة، وأن نخطط لهم الحياة المستقبلية وهم في دور الإيواء، ثم توجيههم مسلحين ليخوضوا لجج الحياة بعد خروجهم منها، واجب علينا.. والأجمل والأبدع، أن نحب من أعماق قلوبنا أن نفعله.. وهنا أقول عظيمة يا "أرامكو".

وعظمة "أرامكو" هنا ليست لأنها أكبر شركة تنتج البترول في الدنيا، وليس لأنها تملك في بطون حقولها في البر وفي البحر أكبر مكامن ومخازن النفط في الأرض، وليس لأنها الأغنى والأوجَهُ عالمياً.. عظمة "أرامكو" بالنسبة لي يوم الأربعاء الفائت لأنها اعتنت اعتناءً حقيقياً بالأيتام في يوم اليتيم العربي، ولم يكن احتفالَ ساعةٍ أو ساعتين، بل كان أياما من الإثنين حتى الأربعاء من الأسبوع الماضي.. وكنتُ هناك. قبل ذلك دعوني أعترف بمن هي صاحبة الفضل الحقيقي وراء حضوري.

جاءتني دعوة لحضور حفل الأربعاء من علاقات "أرامكو"، وقبلت وقتها الحضور بامتنان وحبور. ثم في عين يوم الاحتفال وصلتني الدعوة الهاتفية وبإلحاح من نادي الصم الذي يحرصون وأحرص على حضور حفلهم السنوي، وهي من المناسبات التي تبهجني وتجعلني أقضي ساعاتٍ سعيدة أنسى فيها ما يدور خارج مكان الحفل، وأتمتع وأستفيد وأتعلم من تجارب الكفاح والنجاح والإصرار والقدرة الغريبة على الفرح عند الصم.. وأعترف أن عضلاتي كلها ارتخت أمام دعوتهم في إصرارهم الملحّ للحضور، ووجدتُ الحلَّ.. أو تراءي لي أني وجدته.

موعد حفل "أرامكو" كتبت مقالاً في جريدة "اليوم" محييا فيه ما تقوم به "أرامكو" من أجل بناتنا وأولادنا من الأيتام. وأبطنتُ أن هذا سيكون عذراً لي أمام من دعوني في "أرامكو" في عدم الحضور للتوجه والمشاركة في حفل جمعية الصُم. وعندما هاتفتني الأستاذة فضيلة الجفال للتأكيد علي للحضور في حفل الأيتام، قدمت لها عذري باني مرتبط سنويا مع نادي الصم، وأن موافقتي جاءت سهوا، ثم إني كتبت مقالا عن الموضوع، صورت لي سطحية عقلي أن ذلك كاف، وكان من أحرج لحظات حياتي، فقد كانت فضيلة ترمي شيئا آخر، وأفهمتني أن القائمين على الحفل لا يرمون جزاءً من أحد، فالجزاءُ عند من هو أعلى وأعظم، ولكنهم يريدون المشاركة، وأشارت إلى أنني سأغتني روحيا، وأني سأخرج وأنا أحمل بضاعة كبيرة من السعادة وراحة الضمير.. ولم تصل شفاعاتي لعقلٍ صمّمَ مسبقا على مراده وبمنطقٍ لا يُقهر، ذهبتُ، ولم أندم أبدا. بل لم أعهدني قد ضحكتُ ودمعتُ وحضنتُ ونسيتُ نفسي تماما مثل ذاك الأربعاء القريب.

كانت الطريقة المبتكرة في الحفل عفويته المطلقة، ويحيط كل ضيف من اليمين واليسار طفلٌ أو طفلة. وجرى حوارٌ بيني وبين بنت في السادسة من عمرها أخبرتني بكل ما تعرف من قصص في قلبها، ولما حضنتها متأثرا، وقع لي أشد لحظاتي عاطفية ًفي كل عمري، مدّت ذراعَها الصغير، تمسكت بكتفي جيدا، ثم كفراشة حديقة طارت إلى حضني، واستقرت به وثبتت يديها جيدا حول عنقي.. وبكيت، وخانني الدمعُ فلم يقف، واستنجدتُ بالعم أحمد الزامل الذي رافقني مشكورا ليمدني بمناديل ورقية، غير أنه الآخر كان يشاغل دمعاته. وسلطان قال لي – وهو في الثامنة من العمر- ويتقمص شخصية رجل ثابت، قرب إلى أذني ووجهني أن لا أشجع "البنت" على البقاء في حضني، حتى لا تتعلم قلة الحياء! وضحكنا. برغم ما سيكون رد فعلك إلا أن هذا يعلمك انطباعا أكيدا: خوف سلطان على سهام.. البنت الفراشة. والخوف من الحب، وتعجب كيف تآلفت هذه القلوب الصغيرة لتتعاطف كأسرةٍ واحدةٍ.. نعمةٌ من نِعـَمِ الربِّ التي لا تـُحصى.

يا جماعة، قوم "أرامكو"، الذين انتقدتهم يوما وسط بيتهم وبجريدتهم بقلة الانتباه لمسائل المجتمع المحيط، كانوا يقفون مرحبين بالضيوف عند بوابة مقر الحفل، الأستاذ زياد الشيحة مدير العلاقات الناجح، محمد العصيمي المسئول عن النشر، والكاتب المحلـِّق، وفضيلة ( ما غيرها!) الرائعة، وشبابٌ مهندمٌ في غاية التهذيب والقيافة، وكأنهم فرحون باكتشاف حقل جديد.. على أن الحقلَ هذه المرة حقلُ مواد خام من الحبِّ والتعاطفِ الإنسانِيَيْن. أعمدةُ "أرامكو" تقدموا الحفلَ واستقبلوا الضيوفَ، من الرئيس إلى النواب الكبار، وأعجبني أن المهندس خالد الفالح جاء مستريحاً بزي عمله، وكأنه انطلق من العمل للحفل لا يأبه للزي، وإنما لنداء القلب.

الأستاذة هدى الغامدي، القائمة على الحفل الذي أتي بديعا، كادت تطير فرحا، ليس لأنها تقاضت مكافأة مادية، فهؤلاء الناس يبذلون ولا يعرفون أبدا أن يأخذوا.. ولكن لأن العم أحمد قال مزهوا إنه فخور بها، وإنه فوجئ بأن بناتنا لهن هذه القدرة المميزة على العطاء.. مع أني سبقتُ العمَّ أحمد وقلت لها الكلام بالحرف.. ولأمرٍ ما، طار كلامي بالهواء، وبقي كلام العم أحمد يملأ الفضاء.. منتهى ضياع العدل!

ويبقى شبابُ "أرامكو" مثل الأخ خالد الحازمي نجوماً تنير في كل مناسبة يكون الخيرُ طابعها، فأمتع الأطفالَ وشاركهم، ثم إنه تمادى وأخذنا نحن الضيوف وأدارنا كي نلعب معهم بالمسابقات، ومارس تحيّزا سافرا ضدنا من أجل الأطفال، ومن أجل رؤسائه، وطالبتُ بحكمٍ دولي.. لم يسمعني أحد، وشـُيِّعتُ مع الخاسرين.

قلتُ للأستاذ الفاضل حسن الحسن: "اليوم يا أستاذي "أرامكو" عظيمة". وابتسم، وكأن لسان حاله يقول: لا جديد!

هل كانوا أيتاما بلا آباء؟ لقد كانوا من مركز الأمير سلطان.. إذن، لم يغب دورُ الأب!

ويا فضيلة: كيف أشكرك؟ وكيف سأرفع حرجي أمامك؟!

.. كلاهما صعب!