سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
سأحتاج إلى مخزوني من الثقة أمامكم، وأنا أستعرضُ كتاباً توثيقياً تحليلياً وإمتاعياً، المخزونُ الذي سأصرف منه اليوم في تقييمي لكتاب أعتبره أهم ما أنتجته المطابع العربية ( وليس فقط المحلية) هذا العام على الأقل، في الشأن الاقتصادي.. كتاب "مفهوم العولمة بلغة مفهومة" للدكتور فواز عبد الستار العلمي الحسَني.. الرجل الذي طارت باسمه الأنباءُ كمهندس مشروع انضمام المملكة العربية السعودية إلى منظمة التجارية العالمية لتصبح العضو رقم 149.. والرقم الكبير هنا يعني تأخر وراء 148 دولة.. ما السبب؟ الكتاب سينقلك لقصة الرحلة، ومعوقات الرحلة، ومعارك الرحلة الأساسية، ومناوشاتها الجانبية مع معترضي الطريق طيلة عشر سنوات من الزمن.
هل العراقيل فقط خارجية؟ لا، ساهم فيها الوضعُ والمفهومُ والإجراءُ والقرارٌ الذي ينبثق من الداخل أيضا، لذا فإن الكتاب وبدون تعالٍ أكاديمي يعلم واضعي خطط الاقتصاد كيف يتأملون في معنيين مهمين: الاستشراف المستقبلي، والتداخل العضوي ضمن الجسد الاقتصادي الكوني، وهنا نجد المشعلَ المخبأ جيدا بين السطور.. الضوء الخفي الذي لا يبهرك مصدره، ولكن يقودك ضوءه!
ولقد علمني الكتابُ ألا أتطير، وألا أضرب الأحكام عامةً ومسبقة، علمني أن التريث ليس فقط فضيلة، ولكنه ثمرة في النهاية، فقد توقعت أن يكون الكتاب من تلك الكتب التوثيقية التي تصلني من الدواوين الرسمية جافة صورية ومدحوة بالأرقام بلا مصادر ولا توثيق، ومحشوة بلغة دواوين العصر المملوكي من المديح الذاتي إلى التزلف الذي يجعل شعر جلدك يقف من فرط الاستهانة بك، وبفن إعداد كتاب نافع كي يُقرأ. عرفت من كتاب فواز العلمي قيمة الكنز الذي تخوض به بحرَ التريّث والتمهل والتعمق قبل العجلة في أخذ قرار إفراد شراع الإبحار، أو إلقاء المرساة قبل تلمس اتجاه وهدف الإبحار.. ولقد أفردتُ شراعَ القراءةِ عندي وأبحرتُ في كتاب "العلـَمي".. وكسبتُ مرتين: الإبحارُ ألرخيُّ الهادئُ الممتع.. وكسبَ ثروات البحرِ، وكنز المعرفةِ عند جهةِ الوصول.
وأريد كل من يقرأ هذا المقال اليوم أن يكسب كما كسبتْ.
" في ذلك اليوم التاريخي دخلت كوكبة من فرسان هذا الوطن قاعة الأمم في المنظمة (يقصدُ منظمة التجارة العالمية) يرفعون الأعلامَ السعودية، ورايات النصر خفاقةً، بعد مسيرة شاقةٍ من المفاوضات استمرت عشر سنوات طويلة تساوي عمر المنظمة". هذا الأسلوبُ "الملحمي" واللغة الحالمة القصصية الوصفية تنبض بعاطفة المحارب المكلـَّل بغار النصر بعد غبار وعرق المعارك، وكأنك أمام مقطع من قصص "الكسندر دوما" الابن، أو تجليات الرافعي، أو طوباوية وعذرية أحلام المنفلوطي.. ولكنه نهر متدفق من سفح عِلمي ورحلة من تضاريس رقمية واقتصادية وقانونية وسياسية ومنهجية، ومهارة مفاوضات صارمة، وجمع عشرات الآلاف من الأوراق المليئة في كل سطر بمعلومة موثقة ومهمة، ويُحتاج هنا إلى سلاحين لا يهترئان: الذاكرةَ الفولاذية، ومنطقَ الربط العبقري .. فمن كتب تلك الجملة العاطفية المشهدية ليس شاعرا، ولكن شعرَ وقتها أنه لا يمشي على الأرض ولكنه محمول على بساط المجد، البساط الذي لم يأتِ هينا، بل شارك في حياكة كل خيطٍ فيه من ملايين الخطوط، إنه جهدٌ مجبولٌ بالزمن، والكدّ، والإحباط، والإصرار، والسقوط، والعناد المستمر في الوقوف راسخا بعد كل سقوط، إنه مثل سباحة سمك السلمون الأسطورية ليقطع مجازات المحيط والأنهار ضد التيار الجارح الذي يسلخ جلده عميقا مضرجا إياه بالدم لكي يصل لمنطقة الحياة.. التكاثر. وهذه كانت مهمة كوكبة الفرسان التي أرسلت للعالم كي ندخل سوق العالم.. وأدخلونا.
أصارحكم إني لم أقرأ كتاباً عربيا في الاقتصاد العالمي منذ سنوات، إلا بعض لمام القراءة السريعة الطائرة هنا وهناك، معتمدا كليا علة قراءة الكتب والمراجع الأجنبية لاعتمادها الكامل على التوثيق والمعلومة مع ربط التجربة الشخصية والعمل المنتج المسجل.. فأقرأ مرتاحا لأني سأخرج بزاد معرفي في الموضوع. أجبرني كتاب "فواز العلمي" أن أنهي الكتاب بثلاثة أيام، أطوي الورقة َبعد الورقة.. ليس استمتاعاً فقط، ولكنه الجوع الحقيقي أمام مائدة هي بالضبط ما تحتاج إليه لسد ذلك الجوع.. نحن ما زلنا جوعي في معرفة النظام العالمي، وجوعى أكثر في توقع تبعات المستقبل.. و"نحن" ليس أنت وأنا فقط من عامة الناس، بل حتى من واضعي القرارات الكبرى في سوق الاقتصاد والتجارة والفكر والعمل الذي يشف في أكثر من منحى عن فقر دم واضح لما يدور في العالم من نظام كاسح وآت.. والكتابُ هو مادة الحديد لرفد فقر الدم المعرفي الذي ما زلنا نعاني من دورانه.
يشيع بين نقاد الكتب في دوريات الصحافة الكبرى في الغرب استخدام صفة عند الثناء على كتاب جيد النسج السبك وراقي المعلومة وسلس العبارة، وشائق الأحداث كلمة تصف شعورَ استغراق القارئ وهي Unputdownable ومعناها أنك عندما تحمله لقراءته فإنك لن تستطيع أن تضعه بعد ذلك .. أو "الذي لا يُعاد وضعه" وهي صفة يمكنني أن أستخدمها لكتاب اليوم اعتمادا على مُرتـَكزيْن، قراءتي الشخصية، وما أستخدمه من مخزون حاولت طيلة سنوات أن أنميه معك كقارئٍ مستنير، مخزون المصداقية. لذا لن تجد جهدا في القراءة مع معلومات تحتاج إليها كي تفهم العالم الذي انفتح على مصاريعه سوقيا، سواء كنت متبضعا يوميا، أو صاحب مال أو صناعة أو تجارة. الاستفادة واردة عمليا ووضعيا وفكريا.. أكيد!
بتقييمي، الكتاب سيبقى مشعلا يضيء دهاليز الكهوف المعتمة داخل المنظمة التجارية الكونية لعقد من الزمن على الأقل، وسيكون مهما لكل مخطط اقتصادي عربي ابتداء من المكاشفة الصريحة في (الرؤية: العولمة كما "يجب" أن يفهمها العالم العربي -ص22- إلى مدلولات ومضامين البقاء خارج إطار المنظمة – ص515 – وأعتقد أنه سيكون رائدا كي يقلـَّد من أكثر من مؤلف لريادته وإفصاحه.
أقدم لك كتابا مع بعض ما يكتنف سفرا ضخما في المنشأ النحوي - مثل عدم جزم الفعل يحظى بحذف حرف القصر الأخير في جملة (لم "تحظى" هذه العوائق.. – ص147) إلا أنه سيبقى الدليلُ الأول الذي وضعنا سوقيا بين عالمين: عالم ينتهي، وعالم ينبثق من جديد.
ولا يعطينا الخيار .. بل القرار.