العوضي .. شيخ الابتسامة الأول

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

*" عندما ترحل ابتسامتك لقلوب الناس لتقيم بها تكون بصحبتها أفكارك".

.. كيف سألتقي بالشيخ العوضي؟ قال إنه سيلتقيني في المطار، ولم يقل أين؟ كيف؟ هل من الطائرة؟ هل في سيارة تقله إلى أرض المطار؟ هل في صالون الشخصيات المهمة؟ أسئلة كانت تدور في ذهني والطائرة تحط في مطار الكويت الدولي.. ثم نزلتُ للمطار، ولم يكن أحدٌ بجانب باب الطائرة، ولم تكن هناك أرض مطار أصلا فأنت تصل لمبنى المطار سيرا بالمسلك المتحرك. أينك يا شيخنا يا عوضي؟

وصلتُ إلى قاعة الخروج العامة، والناس ينتظرون القادمين، ووسط هذه الزحمة برز طيفٌ أبيض نحيلٌ وهاتفه الجوال ملصق بأذنه ( دخلت الكويت وخرجت برفقة ألعوضي، وبلا رفقته في آن.. فهاتفه المحمولُ يبدو وكأنه من أعضاء جسده.. لا ينفصل). وعجبتُ أن هذا الرجلَ الذي يملأ الأسماعَ والأبصارَ والعقولَ والقلوبَ في العالمين العربي والإسلامي يقف متزاحما بالأكتاف مع عامة المستقبلين.. وهنا، ومن هناك، كان عنوان شخصية هذا الرجل الأولى وربما الأخيرة: واحدٌ من الناس، وإلى الناس.

كان الخروج من المطار صعبا كاقتلاع شجرة ارتكزت بجذورها، فالناس يتجمعون على الشيخ ويجرون إهابَه القليل، يريدون أن يغرفوا من زاده الثقيل، وهو لا يتردد ولا مرة، لا يتأفف ولا مرة.. ولا يرجئ، ولا يقول معي ضيف، ولا يترك من سحَبَهُ إلا بنصيحةٍ خاطفةٍ، أو بوعدٍ لمكالمته، أو يأخذ ورقة يدسها في جيبه، ولو أرادت مؤسسة "جينيس" للأرقام القياسية أن تحدث رقما جديدا قياسيا لأكثر من تتراكم الأوراق في جيبه، لكان العوضي محتكرا الرقمَ لسنوات. وخرجت ليس فقط بانطباع لشخصية رجل مذهلٍ اسمه محمد العوضي، ولكني تأكدتُ وأنا برفقة العوضي في أكثر من مكان في الكويت، وهو يُستـَقبـَلُ استقبال النجوم، ويتجمع حوله الناس بحب وشغف وإعجابٍ يشع من العيون، كما يُستـَقبل نجومُ الغناءِ والفن والملاعب في الأماكن الأخرى.. إن الشعب الكويتي يتحول بنسبةٍ واضحة للتدين، ليكون نجومهم، وقدوتهم العلماء الذين وصلوا إلى قلوبهم قبل عقولهم. وعندما أقول الشعب الكويتي فأنا أعني الصغار في سن طلائع براعم الأزهار، إلى الناضجين في كل الأعمار. ومرة اقتربت عائلة ومعهم بنت مقعدة على كرسي مدولب، وتعاني شللا متعددا، وصعوبة في الكلام، وكانت الفتاة هي التي طلبت أن تقترب من العوضي لما رأته جالسا وأنا معه.. قفز العوضي وتحدث مع البنت وأم البنت وقدمني لهم كما يُقدَّم شخصٌ لكبار الناس.. وكانت لحظة لا ولن أنساها ما حييت، البنت عائشة "حسين الحشاش" المقعدة تجلى أنها فتاة عبقرية وحائزة عدة جوائز، ومؤلفة كتاب قرأته كله في ليلة، أغالب دموعي وأتقلب مع فخري بها، وبالعمل الإعجازي الذي أنجزته أمها من أجلها بعد أن نفض العالم كله يده منها، واعتبرها حالة عقلية وجسدية ميئوسا منها.. ويوما سأحدثكم عن بطلتي عائشة الكويتية، فاليوم مع صديقي الحبيب محمد العوضي.

هل قلت الحبيب؟ ربما قلتها بعفو الخاطر؟ لأن الحبَّ علامة ناهضة من علامات الطبع المعفى عند الشيخ العوضي، فهو رجل يحب الناس، بل في هذا الجسد الهزيل طاقة من الحب تسـَع سلسلة الهملايا.. إنه يمشي ويحب، يأكل ويحب، يشرب ويعمل ويفكر ويقرأ مع الحب لكل شيء، لكتبهِ، لأفكار العلماء والمفكرين، وحب إنساني يجري في تكوينه الخلـَوي والعصبي يجعله لا يشك في أن بالناس من الخير الكثير، وعلى من يحب الناسَ أن يحمل مكشافـَهُ ويدور في مسالك النفوس وسيجد الحبَّ مشعا بارقا مزهرا بانتظار أن يهـِب نفسَه لمن يحبه، لمن ينقـِّب عنه.. وهنا يكون العوضي واحدا من أفضل المنقبين.

العوضي ليس مثقفا.. لا تتعجب، أو تعتقد أن شيئا خالط عقلي، ألعوضي ليس مفكرا، ألعوضي ليس نخبويا. ولكن العوضي كائن ثقافي رغم أنفه، إنه يتنسم الثقافة والمعارف كما تتنفس باقي المخلوقات الهواء، وإن حُجـِبتْ عنه مصادرُ المعرفةِ فإنه مخلوق هنا قابل للاختناق السريع، فهو يتكلم معك يغرف من الكتب غرفا، القديم والحديث، تسمع منه عن العسقلاني بذات الحماسة عن شاكر محمود، وعن شوقي والشريف الرضي والمتنبي، كما يحدثك عن أدونيس وما بعد الحداثة ويتلوها بذاكرةٍ فوتوغرافيةٍ مدهشةٍ، لذا لا يصعب عليه الاستدلال لتيسر وسيولة والاستظهار. فأنت تمشي مع مكتبةٍ تراثية حداثيةٍ تسير على ساقين، صحيح أنهما ساقان مستدقان ولكنهما عمودان لقلعةٍ شامخةٍ، قاعدتها المحبة والمعرفة، وبالمصراعين الأخيرين تكون قد فتحت بوابة العوضي الكبرى، لتسيل إلى عقلك وروحِك الأنوار..

والعوضي تعلم من أهله البحارة أنه لن يحدث موجاً إن لم يضرب بالمجداف بقوة، لذا فهو يقدم برنامج "قذائف"، ولا يتوانى عن الضرب في الموج حتى إنه ركز على صفة "الإلحاد"، وكنت أصر على "الشك" أو "الضياع"، في مقابلته معي، ولكن البحارَ ينسى عند نداء الأمواج أي صوت..

العوضي عالمٌ ديني لا يرفع إصبعا للاتهام، وإنما يمد يدا للمصافحةِ وللمساعدة والالتئام، لا يحكم على الناس من حيث يقف، فيحكم عليهم من حيث يقفون..لا شيء يجعله لا يحب أحدا مهما كانت صفته أو عمله، ولا شيء يجعل أحدا لا يحبه، فمهما كان الشخص وبأي موقف، عندما يلتفتُ سيجد العوضي بجانبه مبتسما ومقدما تلك اليد التي تعرف كيف تقود لطرق الرضا والضياء.

ألعوضي هو أكثر من يعرف أنه لا يخاف من الشك ولا من المتشككين، لإيمانهِ بأنك متى أشبعت إيمانَ الآخرين فإنك بذات الإجراء والوقت تجوّعُ الشكوكَ داخلهم حتى الموت..

هذا العبقري المتواضع والمضيء المتشح علما وحبا والذي جـُمِعـَتْ به تلك العناصر مع عبقرية الجمال الإيماني.. وكـُثـِّفت داخل بدنٍ بأرطال قليلة، هو صديقي ومعلمي وشيخي محمد العوضي.. شيخ الابتسامة الأول!