.. ولما أصبحتُ رئيسَ وزراء!

سنة النشر : 09/03/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

البنت - مبروك يا بابا صرتَ رئيس الوزراء..

وشهقتُ، وابنتي فرحةٌ بأنني أصبحتُ رئيسَ الوزراءِ، ولا تكادُ تحمل الأرضُ أقدامَها الصغيرة.. أما أنا فأُسقِط بيدَي، "يا ساتر.. مرة واحدة رئيس وزراء؟ ألا تعرف البنتُ بماذا تهرف؟ والله لو خرج هذا الكلامُ للناس.." ولكن حمدتُ واستعذتُ وقلت للبُنَيـّةِ: "ما هذا الكلام يا ماما؟ من أين أتيتِ بهذا الخبر؟".

البنتُ، وهي ما زالت في نشوةِ الفرح ـ قريبتي فلانة كتبتْ في الماسنجر (وصلة الحديث في الإنترنت بين الأصدقاء.. وغير الأصدقاء!) "عمّو نجيب صار رئيس وزراء".

الأب مصحّحاً، ومرتجـِفاً - لا يا ماما أنا تمّ تعييني في مجلس الشورى، مجلسُ الوزراء شيءٌ مختلفٌ آخر..

البنت- آه، يعني صرت يا بابا رئيس الشورى..

وأُسقِط بيدَيْ للمرةِ الثانية، راجيا اللهَ ألاَ يطلع رئيسُنا في الشورى على هذا الخبر المغلوط.

الأب - لا يا بنتي لا رئيس ولا شيء، أنا عضوٌ من عشرات الأعضاء؟

البنت (وقد غربتْ الفرحة فجأة من ملامحِها، وهزّتْ كتفيها) ـ هه، فهمت.. يعني لا رئيس وزراء ولا رئيس شورى..

وعلـّقتُ بيني وبيني: "ولا رئيس البيتِ .. أيضا".

وقبل أن تسحب البنتُ قدميها وقد التصقتا بالأرض، صرختُ كمن تذكّر شيئاً مُريعاً:

"يا بنت كلـّمي لفلانة، واطلبي منها إزالة "عمو رئيس الوزراء".. ولا تكتب أي شيءٍ، رجاء!

ووصلتني هذه الرسالةُ من شاب سعوديٍّ يدرسُ في لندن:

"مبروك على عضويةِ مجلس الشورى، والحقيقة لم أكن أعلم ما هو مجلس الشورى، ولا ما هي بالضبط مهامه، وسأحرص من الآن على متابعة أخبارِهِ ومعرفة ما يجب معرفته عنه".

واستوقفتني كلمة "يجب"، ولكن سأعود لها فيما بعد.

وعمَلتُ تقصيّـاً صغيرا بين الفتيان والفتيات في دائرتي في المرحلتين المتوسطة والثانوية، عن الذي يعلمونه عن الشورى: لا شيء. ولكن، يجب أن أعترف أنه في أكثر من حالةٍ بعضهم الذي يعرفه عن الشورى.. أفضل منه لا شيء!

ما السبب، في غياب مفهوم واحدٍ من أهم مجالس الأمّةِ عن بواكير الأمة، وشبابها؟

ومادام الموضوع من أوله وفيه من الروع ما يكفي فدعوني أحزم القليلَ الواهي من شجاعةٍ غائبةٍ لأقول إن السببَ: نحن.. الكبار.

فنحن الكبارُ "يجب"، وهنا موقع الوجوب فعلاً، أن نتيح الأمورَ والمعرفة والاطلاع والمكاشفة والاحترام والاعتبار للأجيالِ الطالعة، للشاباتِ والشباب. في المجتمعاتِ الصحيحة، والصحية يكون الجيلُ الشاب هو القاطرة التي تقودُ باقي عربات الأمة، ولكننا نحن ما زلنا ككبارٍ ندور في دوائرِنا ولا نخرج عنها، لا نذهب للصغار، ولا الصغار يلجون دوائرَنا، ونخاطبُ في كل شيءٍ الكبارَ، ولا نعتبرُ إلا للكبارِ، ولا نسمع إلاّ من الكبار.. فصار مجتمعُنا كبيرا، شيْخاً متيبسا.. وبقي الشبابُ يدورون في عالم وحدهم، ولو تركناهم أكثر لاغتربوا عنا، لأننا غرَّبناهم عنا.. أيجوزُ هذا؟!

وكشخصٍ محسوبٍ من الكبار، جفلتُ للمرة الأولى من ابنتي، ومن قريبتنا الصغيرة، ومن الصِبْيـَةِ والصبايا الذين لم يعرفوا شيئاً عن مجلسٍ أغـْتـَرِبُ له أربعة أيام في الأسبوع، وتـُعرَض عليه أجلُّ قضايا الأمةِ، وكدتُ أصرخ في وجوههم... لولا أن صوتي غير قابل أصلاً للصراخ، ثم لكابحٍ عقليٍّ لجمَ صاروخ عاطفتي بصليلٍ أعلى من صوتي.. الخطأ مِن مَن؟ نعم، مني أنا الذي لم أنوِّر ابنتي عن مجلس الشورى، بينما في مقالاتي، وفي مجلسي، وفي منتدياتنا، نناقش الشورى تقريبا أكثر من أي موضوع آخر.. ولكن لما أخرج لابنتي أكلـّمها عن عالمها وصديقاتها ومريولها.. فأتركها بعالمها، فلا تعرف عالمي. ولقد انتبهتُ على الحقيقةِ؟؟ كان يجب أن أصرخَ في.. وجهي!

وربما هذه أل"يجب" تبدأ من مجلس الشورى نفسه، بأن يعطي للشبيبة اعترافاً وحضوراً وحتى مشاركة في الجلسات لإبداء وجهات نظرهم فيما يخصهم.. وسنفكر في لجنة الشباب أن نعرض أعمالاً مبهرة وخلاّقة وبنـّاءة ومتطورة يقوم بها الشبابُ على الأرض حالياً، وأحلم في اليوم الذي سأرى في أكثر من مناسبةٍ شابا أو شباباً يخاطبوننا تحت قبة الشورى.. حينها، سيدخلون عالمَنا من أوسع أبوابه، وسندخلُ عالمَهم من أحدثِ أبوابه.. وسنكتشف أننا نتقاسمُ عالماً واحداً.. وهم فيه الأكثر!

لا يعني هذا النزول عن القطار.. ولا عدم المشاركة في قيادتِه، ولكن بينما القاطرة تقود العربات، يقف الكبارُ بأعلامهم ليخبروا القاطرة ماذا في الطريق القادم من عقبات ومن معابر..

لأنه القادم من الطريق, الصغار لم يصلوه، أما الكبار.. فقد كانوا هناك!