ونحنُ في حضرةِ الملك

سنة النشر : 02/03/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

شعورٌ مهيبٌ..

هذا أول ما شعرت بهِ والسيارةُ تتهادى إلى مدخلِ المنطقة التي يقعُ فيها مقرُّ مجلس الشورى، كل شيءٍ يشملك بإطلالاتِ الهيبةِ من المعمار إلى البيئةِ الجماليةِ التي تدور حول المعمار.

وجاء الأعضاءُ الجددُ والمجدَّد لهم من كل جهةٍ من بلادنا، وكان المنظرُ مهيبا. هذه العقول التي لم أحلم أن أكون بجوارها في يوم من الأيام، ولا في ما تمليه صُدفُ الحياةِ في أن يلتقي كتفان عبر طريقٍ ثم يغيب صاحبُ أحدما، وتقول: أليس هذا فلانا الذي دارتْ باسمِهِ الأخبارُ؟ فإذا كتفك بأكتافِ هؤلاء النابهين، ولكنه ليس من لقاء العابرين، وإنما في تجاورِ الباقين، فتتطلع إلى نفسِك، ولا ترى إلا أن ما يحرك كل جهازك العصبي والعاطفي هي المهابة.

وكان جديراً بصديقي الدكتور "عبدالله العسكر"، وهو من سكان العاصمةِ، أن يحاول إزاحة بعض هذه الهيبةِ التي تغمرني بأن صاحبني لأول لقاءٍ سوف نؤدي به القسَمَ أمام عاهل البلاد. وضمرتُ في قلبي: "ما أجمل الأصدقاء فعلا"، وتلمّستُ في روحي أن هذا من دعاءِ أمّي. على أن دعاءَ الوالدة يستقبله المولى فوق التوقعات.

كنا نتقاطر على مكتب الإدارة في المجلس، والذي يشرح لكل عضوٍ جديدٍ معلومات أولية أساسية وتعبئة بياناتٍ ستكون تجهيزاً للقادم من الإجراءات، وموقع المكتب المخصص لكل عضو. وكنت أسحب نفسي فقد تطاولت أيادٍ لصديقي "العسكر" وعدتُ وحيداً من جديد، وإذا بلافتةِ مدخل الإدارة ومكتوب عليها اسم أعرفه جيدا : عبدالله بن عثمان المحارب - مديرُ عام الإدارة، ولم أكن قد التقيتُ صاحب الاسم إلا مرة يتيمة في حياتي من سنين طوال لما كان وأنا نعمل في المؤسسةِ العامة للموانئ، فقلت لنفسي: إما أن الكرةَ الأرضية أصغر من ذي قبل، أو أن دعاءَ الوالدة وصل إلى كرامة المعجزات.

ولما دخلتُ الإدارة وجدت أن السيدَ المحارب يستقبلني لأبقى معه والتقي شخصاً لفتني في المرة اليتيمة من أعوام بسعةِ ذهنه، ورحابة شخصيته، ولطافة جدّيته.

على أن الهيبة اشتدتْ ونحن ندخل ردهة الاستقبال في الديوان الملكي، وكلٌ تساوى على المقعدِ الذي خـُصِّص له، فقد قـَرُبت لحظة الحقيقة، فكما قال لي السيدُ المحارب: "إنك عضوٌ غير فاعل حتى تؤدي القسَمَ فيبدأ تشغيلك.."، ولقد قرأتُ القسَم َوارتجفتُ، ولم يطمئنني الشيخُ الجليل المضيء بجانبي الدكتور "ناصر الميمان"، فقد أكدّ لي على غِلظة القسمِ في كل جزئيةٍ فيه، وظلّ يطالع برهبةٍ جزءاً في القسم يقول: " وأقسم أن أحافظَ على أنظمتِها" أي على أنظمةِ البلاد، فقال إنها جملة خطيرة، فحتى تجاوزاتك المرورية محسوبة عليك في هذا القسَم، فعلمتُ أن الدكتورَ المعلـِّمَ أراد أن يعطيني درساً مضمَّنا بالتواضع والمباشرة .. "فكيف بباقي القسَم إذن؟!" يا ألله، يا لهول القسَم، هذا القسَمُ الذي سيشغـِّلكَ، وسيشغـِّلُ أهم ما فيك.. ضميرُك!

هنا، كان يجب أن أتأملَ قليلاً.. يا الله، إذن اكتشفتُ الآن لمَ هذه الهيبة التي فاضت سيْلاً في قلبي؟ إنها لم تكن من هيبة المعمار، ولا من هيبةِ تكاثر النابهين حولي، ولا من هيبةِ تفرّدي بعالـَم جديدٍ لأمور جديدة، ولكنها هيبة هذا القسَم.. فأنا الآن مسؤولٌ بشكل فوق ما أتخيل.. فأخاطبُ ذاتي: إنك مسؤولٌ أمام الله الذي أقسمتُ باسمه العليَّ العظيم بأنكَ ستؤدّي واجباتـَك بلا نقصانٍ ولا خلـَلٍ، ثم أنتَ مسؤولٌ أمام رجل البلاد الأول الذي أولاك ثقة لم تكن لتقدِّر في يوم من الأيام أن تحملها فوق قلبِك وضميرك وتسندها فوق كتفيك، كما ظن الإغريق أن "أطلس" يسندُ كل العالم على كتفـَيْه.. والمسؤولية لا تفوَّض بينما السلطاتُ تفوَّض، وهنا يكون مغزى مسؤوليتك الكبرى أن تخدم أبناءَ البلادِ لأن العاهلَ مسؤوليته كل الناسِ على أرض البلاد، هو يعلم أنه يعطيك ثقة، صحيح. ويوكل إليك عملاً من أجل الناس، صحيح. ولكن، هذا لا يقلل ولا ذرّة من مسؤوليتهِ تجاه شعبه، وهنا الميزانُ الدقيق والصعبُ في آن.. فهنا ثقة كبرى أن يوليكَ شيئاً هو يعلمُ أنها تبقى، رغم أي توزيعٍ للثقةِ، مسؤوليته أمام الله.. فيا لهول الثقة.

وعندما وقف الأعضاءُ وساروا نحو الملك، دار في رأسي، ما كان يدورُ في رأس كل حاضرٍ في تلك القاعة الكبيرة.. وأعلم أن كلا منهم ، لأن هذا ما كان في كل كياني، يحب أن يقول لمليكنا: "أعطيتنا أغلى ما يعطي أيُّ إنسانٍ لأيِّ إنسانٍ على الإطلاق: الثقة."

فيالهول ما أُعطينا.. إنّ العاهلَ لا يعطينا أمانةً فقط.، لقد أعطانا أيضاً ظهوراً وفرصة من فرص الحياةٍ، ولا بد أن نعترف بذلك، فهي ثقةٌ إذن موسومةٌ بعطاء.. فتتعاظم الهيبة.

مددتُ يدي وصافحتُ يدَ العاهلِ كما صافحه قبلي وبعدي الزملاءُ الكبارُ.. ونحن نعلم أننا أخذنا أكبر جرعةٍ يتلقاها المرءُ من الحافز لأداءِ الواجب.

ومن بعد.. لأربع سنواتٍ قادمة، تم تشغيلنا.