لما تكونُ الثقةُ رائعة.. ومريعة!

سنة النشر : 16/02/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. الثقةُ هي أغلى ما يقدمه إنسانٌ لأي إنسان.

تابعنا القراراتِ الملكية الأخيرة، وهي تحملُ عنوانا كبيرا، الثقة. الثقةُ في الذين منحوا الوظائفَ العليا والمراكز الحساسة لقيادة تطوير جديد ومتتابع، نحو حاضر أزهى ومستقبل بوعودٍ أجمل..

وحين يمنحك شخصٌ عادي الثقة فيؤمِّن لديك مبلغا قليلا من المال، أو مسؤولية محدودة تهمه شخصيا، فهو هنا قدّركَ أكبر تقديرٍ لا ترسمه الكلماتُ، وأكثر برهانا من كل ما تحمله اللغاتُ من تعابير، لأنه مبرهـَنٌ بالفعل في الواقع، ويعطيك بعداً إنسانيا وعقليا واتزانا واحتراماً بقراره العقلي لا بانطباعه العاطفي .. فالثقةُ اختيار، بينما الحبّ مصير.. الحب يعصف بأبواب القلوبِ بلا إذن ولا إنذار، والثقة إجراءاتٌ عقلية متراصّة ومنطقية ومبرهنة وإعمال الخبرة لتوقع ما سيأتي.. أي أن من ائتمناه عرفناه شخصيا، ومن واقع أعمال مثبتةٍ فاخترناه بمنطق العقل، ويبقى أن يكون هو متابعاً لما نتصوَّره عنه. لذا، فخذلانُ الحبيب رغم آلامه متوقـَّع، ولكن أن يخذلك من وثقت به فهنا فيه طعم الغدر، وأسَنُ الخيانة.. فالمغدورُ بالثقةِ أشد شعورا بالألم من المغدور بالحب..

هذا بين الناس العاديين في الأمور العادية، فكيف لما تـُمنـَح الثقةُ وهي تحمل ثقـَلين عظيمين معها، ثقلُ أن الذي ائتمنكَ هنا هو رجلُ البلاد الأول وولي عهده الأمين اللذان يتحملان همومَ ومسؤولياتِ العباد، والثقلُ الآخر أن تكون الأمانة 20 مليونا من الأنفس، كل نفسٍ تأمل من الذين أولاهم القائدُ الأولُ ونائبه، أن يعملوا من أجل كل واحدٍ منهم، ومجموعهم، متطلعين لفجر أسطع إشراقاً..

هنا تكون الثقة رائعة، ومريعة.. في آن.

رائعة لأنك مُنِحت ثقة كبرى قد لا تتكرر في حياة المرء مرتين، وأن هذه الثقة لم تعط لك هدية ولا منحة، إنما تكليف مغلف بالثقة النفيسة، بعد تمحيصٍ ومعرفةٍ وقياسٍ واختيار لن يكون بأي حال من الأمور السهلة اللينة والطيِّعة.. من أعمال قمتَ بها فأتت محصولها بأكثر مما تتوقع في أجمل أحلامك، ومن سمعةٍ بنيتها مع السنين.. وهنا يكون المشهد رائعا صافياً جميلا تسبح به في ملكوت تحقيق الطموح وقطف ثمر الإنجاز.

ثم إن هناك الآن المحكُ الأكبر في الكشفِ عن صلابة معدنك، وقدرة تحمل مبادئك، وعمق إيمانك، ومدى طهارة ضميرك، وعاطفة قلبك، وإبداع عقلك.. في أن تترك المكانَ الذي أُدخِلت إليه وهو أفضل مما كان قبل دخولك.. أو أن يتشكى منك المكانُ بعد دخولك، وبعد طلوعك.. وهنا ليس علوّاً تصعد به وحدك، أو زلَلاً تتهاوى إليه وحدك.. إنما صعودٌ أمام مراقبة الله ثم أمام نظر ولاة الأمر، وأنظار الملايين من الناس.. أو أنه السقوط، وهنا يكون الروعُ.. وما أشده من روع!

وإني أرى أن الخطأ له مساحة رحبة في مسائل تخص الإنسان لذاته، وأن الخطأ يضيق تحمله متى كان لا يصيبك وحدك ولكن يؤثر في المجتمع كله. صحيحٌ أنه لا حياة بلا أخطاء، وما البشري إلا كائنٌ قابلٌ للخطأ، ولكن في الخدمة العامة تكون احتياطات توقي الخطأ أشد، وأكثر مراحل في المراجعةِ والتصفيةِ والشفافية والتطبيق.. عندما يسمح الخطأ في أي موقع، إلا أنه في الموقع العام لا يسمح أبدا أن يكون الخطأ تسرعا أو تقصيرا أو بفعل العادة والروتين. وكلما زادت معاييرُ الجدية، والتمحيص والدراسة ونموذجية التطبيق، مع إخلاصٍ من أول خطوةٍ، ولا يقف عند أي خطوة، يكون الخطأ في أقل احتمالات حصوله، وهذا ما يجب أن يكون معنى إدارة الخطأ في المرفق العام.

وأني أكيدٌ أن كل من شمله القرارات الأخيرة يلهج قلبه ولسانه بحمد الله، ثم بالامتنان والشعور العارم بالفضل لمليكنا وولي عهده.. وفي الجهة الأخرى من القلب والعقل يجمع كل مدخرات ترسانة خبراته ومهاراته ومواهبهِ ليثبت أنه أهلٌ لذاك الاختيار..

فمن منحوك الثقة وكأنهم أعطوك أغلى ما في الأرض، وعندما لا تصون هذه الثقة فإنهم سيطاردونك حتى نهاية الأرض.