سنة النشر : 09/02/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. يحكي لي مديرُ مدرسةٍ متوسطةٍ أنه يوما قبض على مراهقٍ متلبساً بسرقةٍ من زميل له، والطالبُ ليس فقيرا لدرجة السرقة لشيء صغير من زميلٍ له.. ويقول إنه استدعى والدَهُ لحضور الواقعة، ولما راح الوالدُ يعنـَّفُ الولدَ على العملِ السيئ، استغربَ المديرُ أن الطالبَ المراهقَ قال بعفويةٍ لأبيه: "ولكنك يا أبي لم تعلمني يوماً ما هو الصحّ وما هو الخطأ.. ألم ترسلني يوماً لنزع غطاءِ عجلة سيارة الجيران مبرّرا بأنه ليس في سيارتِهم إلا ذلك الغطاء اليتيم، بينما سيارتك تفتقد غطاءً واحداً!".
وترى أن هذا هو سرّ قضية السرقةِ والفساد بمجملهما العام: المفهومُ الخاطئ، أو الخطأ المبرَّر، أو عدم معرفة الفرق بين الصح والخطأ. وإنك لتعجب يا أخي عندما تعلم أن قطاعاً عريضا لا يعرف فعلا التفرقة بين الخطأ والصواب، ومن يعرفه ممن يكون تحت يده أو بقربها مُلكاً أو حقاً لغيرهِ تجده يملك التبريرَ دائماً إما ليريح ضميرَهُ، أو ليتشدّق بأن لفعلته تبريرا أخلاقياً أو منطقياً أو حتى دينياً.
وشيوع هذا المفهوم، أو الثقافة التبريرية السلبية من أهم عوامل الفسادِ والإفساد في منظومتنا الرسمية والأهلية، الفسادُ بأن يملك صاحبُ الفعل الخاطئ تبريراً لذاته، والإفسادُ بأن يقنع زميلا آخر بصحّةِ، أو بمنفعة العمل الفاسد. كلّ تلك الأفعال، مهما بُرِّرَت، لا تخرج أبداً عن دائرة النفع الشخصي والأنانية الخالصة، وهذا ما لم يحاول من قام بعملٍ فاسد أبدا أن يبرّره.. إلا لأنه أقرب للمال العام أو الخاص، ليس إلاّ.
ومجتمعنا به هذه الثقافة السلبية، ولا تخلو مؤسساتُنا الرسمية والخاصة من العابثين بالمال العام، ثم تراهم أحرص الناس على الصلاة وقضاء واجبات الدين، حاملين التبريرَ الذي يجعل قلوبهم متخففة من الذنبِ وهو يركعون ويسجدون ويصومون، بل يزكون ويتبرعون، وربما يبكون فعلا على مشاهد الفقر.
وكل فرد منا يعلم ذلك، ونعرف كيف يتركز الفسادُ حتى يصير في بعض المؤسسات طبيعة حياة، ويتعامل المتعاملون بها كطبائع الأمور، وفي بعض المرافق العامة تكون الرشوةُ مجرىً طبيعياً يصل إلى حدِّ العُرفِ المنظـَّمِ، فيكون لكل إجراءٍ أو معاملةٍ أو خدمة مبلغ دائر ومحدّد بين الراشي والمرتشي.. ولكليهما تبريره الذي كما قلنا يخفف ضميرَه، فالراشون بعضهم يملك حتى فتاوى دينية يحفظها عن ظهر قلب لإنجاز المصالح، والراشون يملكون التبريرَ الذي تحدثنا عنه، أو أنه لا يفرق بين الخطأ والصح، في عمى جماعيٍّ استحلاهُ بعضُ الموظفين فلم يعودوا يرغبون في الخروج من عالم العميان.
وكنت أقرأ كتاباً لصاموئيل فلورمان، وهو واحدٌ ممن يسمونهم في الغربِ المنظرين الأخلاقيين Ethics theorists، ولفتني قوله: "إن معظمَ الأفعال الشريرة لا تـُرتـَكَبُ بواسطةِ الأشرارِ من الناس، وإنما من الناس المهذبين الطيبين، بلحظات اليأس الذي يؤدي إلى التهور، أو لحظات ضعفٍ تضيعُ بها البصيرة، أو العجز في التفرقة بين ما هو صحيح أخلاقيا وخاطئ ظروفٍ متضاربة وكثيرةِ التطلـّبِ والإلحاح.."، أي أن لكل من قام بعمل خاطئ تبريراً دائما أو وقتيا أو ظرفيا.
هل هذا صحيح؟ ليس صحيحا، ولكن لا تنس قضية الولد الذي لم يعلمه والدُه الفرقَ بين الخطأ والصح، أو يأمره بالعمل الخاطئ مغلـَّفاً بتبريرٍ يقبله الفتي فيقوم به في المستقبل. ونمثل من تمتدّ أياديهم على مالٍ عام، أو ملكياتٍ خاصة، بأنهم لم يربَّوْنارسمياً ونظاميا وعقابيا على التفرقة بين العمل الصحيح والخاطئ.. أو أنهم يجدونَ المُرَبَّي أنموذجاً يقتدون به.
ولا يقف العملُ الخاطئ عند موظف القطاع العام أو المستخدم بأي مكان، فمن في الأعمال والتجارة، عندما يشترون أصوات المنتخبين فهي سرقة من حق مرشح آخر، وبائعو الأصواتِ لصوص وأكثرهم لا يعي هذه السرقة، ومن يغالون في الأسعار بشكلٍ فجٍّ هم أيضا لصوص، يملكون تبريراً بأن السوقَ حر، وأن بين البائع والمشتري إرادة حرّة، وهذا خطأ صريحٌ فكثير ما تكون للناس فرص قليلة في الاختيار، فيكون الاحتكارُ، وأراه من كبائر اللصوصية والسرقات.. وأكثرها تبريراً!
إذن، هل يسرق الناس عن فاقةٍ، أو فقر، أو جوعٍ وتملك الفلسفة التشريعية الإسلامية تفهماً رحباً لهذا الأمر بأدلةٍ مشهودة؟ الحقيقة لا، أنها هذه النزعة التبريرية حتى في تصنيف مفهوم الحاجة.. كأن يقول من يسرق: "أحتاج أن أبني بيتاً، أو أشتري سيارةً، أو أبعث ابني للدراسةِ في الخارج".. وهنا يحضرني الرجلُ الذي ملأ القرنَ الرابع قبل الميلاد بفلسفته وسعة قراءته لطبائع البشر، فسبحت شهرتـُه لبقيةِ القرون، عظيمُ مفكري الإغريق أفلاطون، حين قال:" الفقرُ لا تتكون عناصرُه من قلة ما يمتلكه المرء، بل في زيادة ما في الإنسان من طمع.." وهي الحقيقة التي لا غطاء يدثـّرها.
نحتاجُ إلى حملةٍ لإعادة تأديب العقل العام على معاني النزاهةِ، أي الصحيح الأخلاقي والخاطئ، وأن تُتـَّبَعُ حدودها ومفاهيمها بكل الأثمان بعيداً عن أي تبريراتٍ مهما كانت مقنعة للشخص أو للمجتمع المحيط، فاستمرارُ الظاهرة سيقوّض أخلاقَ المجتمع.. وسيؤدي إلى زعزعة كيان الأمّة.
إن لم نبادر الآن، فلا تبريرَ نملكه أمام ربّنا إلا أننا نكون بالفعل قد بدأنا!