ليس فقط من أجل ولدي!

سنة النشر : 10/01/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

.. "سنتيا كردي" ليست امرأة عادية أبداً.

هي من الناس الذين يُكتب عنهم في مجلات مثل "ريدرز دايجست" التي تكرِّسُ فصلاً للبطولاتِ الإنسانية، أو عندما يخصّون فصلاً لدراماً حقيقية من الواقع.

هي من النساء اللاتي تقرأ عنهن في سيرةِ المنجزاتِ العالميات، أو من تلك النوعية التي ترسلها هوليوود في أفلامِها عن قصة حقيقيةٍ لامرأة ناضلت من أحزانها ومصابها لتجعله قضية عامة، بضميرٍ كبير، لرعاية المجتمع الكبير.

سنتيا كردي، لم تقم بعمل كبير على مستوى البلاد، ولم تقلب اتجاه التاريخ، ولكن لو كان عندنا عشرات السنتيات لانفتحت لنا مشارقُ لآفاقٍ جديدةٍ في الحاضرِ والقادم من أجل مسيرةٍ إنسانيةٍ يكون فيها الإنسانُ محورَ الرقيّ والعناية.. فعلا!

سنتيا كردي، لها قصة، والقصةُ ليست بالضرورة من قصص الأحلام والنهايات الوردية، ولكنها أعمقُ وأشملُ وأقوى في العِبر والدروسِ والاقتداء.

هذه السيدةُ السعودية، حسبتها طبيبةً متخصصة لأول وهلةٍ، متخصصة في الظاهرة التي تصيب البعض منذ ولادتهم والمسمّاة بمتلازمة "داون" وهي اضطرابٌ خـَلـْقي ينتج عن وجود كروموسوم زائد في خلايا الجسم (تثلث الصبغي رقم 21) ويسبب درجاتٍ متفاوتةً من الإعاقةِ العقلية و الاختلالات الجسدية، وتسمى شيوعاً "المنغولية"، وفهمت من السيدة سنتيا أنه تم التخلصُ من هذا الاسم لعلاقته بشعب "منغوليا" الذين احتجّوا على التصاق الصفةِ بهم، ثم بتلقائيةٍ عفوية علقت السيدة كردي بلكنتها المدَنية الواضحة: "واحنا مالنا ومالهم".

ولكن ما سببُ إذن كل هذه المعارف لدى السيدة "كردي" العميقة عن هذا المرض؟ السبب أنها أم. وأم لم تقف تندب حظها، أو تجري دمعها، بل أرادت أن تقوم بعمل من أجل ابنها، ولتقوم بالعمل يجب أن تتعلم وتقرأ وباجتهادٍ مضنٍ ومتعِب.. وفعلـَتْ!

أي شيءٍ مناطٌ بالمرأةِ، وبالذاتِ الأم، فإنها ستنجزه، والإنجازُ سيكون شيئاً يفوق التوقعات، لأنه مجبولُ بالصبر الذي لا يفِلّ، والحبّ الذي لا يعرٍف حدوداً ولا تخوماً، والمجابهة التي لا تتراجع، والتصميم والعزم اللذَيـْن لا يزدادان مع الأيام والصعوباتِ والتحدياتِ إلا إقداما.

والسيدة "سنتيا" أم، أمٌّ لها ابنٌ، وهذا الابنُ يحمل متلازمة "داون".. على أنّ هذا الطفل بدورِه نسيجٌ مثالي لحبْكةٍ من دراما المعاناة وسوء التعاقبات الطبية الجراحية. فقد تعرض الولدُ في طفولتِهِ الأولى لعمليةٍ جراحية عاديةٍ في حنجرته، أو هكذا كان يجب أن تكون، ولخطأٍ جراحيّ أصاب الحبالَ الصوتية تعطلتْ عنده عملية الصعود التنفسي، فكان التدخل لإنقاذه ليتنفس عن طريق فتحةٍ يُزرَع فيها أنبوبٌ في رقبتِه، ثم تطورتْ مضاعفةٌ أخرى فتعطـّل مجرى الطعام، وكان الثقبُ والانابيبُ مرة أخرى.. والذي كان يتطلب أياماً، صار شهورا.. ثم سنوات.. وفقد الطفلُ القدرة على الكلام، مع صعوبةٍ أصليةٍ خلقية في من يحملون متلازمة "داون" بصفة اللسان الثقيل العريض.

على أن الأمّ لم تقبل إلا أن تعيد النطقَ لولدِها رغم صعوبة المهمة.. ونجحَتْ!

لما قرأ عمرُ، ابنها، سورة قل هو الله أحد، رغم خجلِه وتداريه، ران الصمتُ على المكان، وفجأة أنار مصباحٌ روحانيٌ ملامح السيدة كردي، لتخبرنا بنبرةٍ فخورة، وكأنها نالت أهم جائزةٍ على الأرض: "ولدي عُمر سيشارك في مسابقة القرآن على مستوى المملكة". هل نصفق؟ هل ندمع؟.. لم ندرِ ما نعمل سوى أنـّا سبَحنا في الضوءِ الذي غمر المكان.

وكنتً بصحبة اثنين من كبار رجال أعمال المنطقة الشرقية، السيدين الإنسانيين "راشد السويكت"، وأما الآخر.. فمن غير محبّ الخير "سلمان الجشي".. وقدما كل شيءٍ باستطاعتهما، من أجل مركزها التي عملتْ عليه، وهبّت معَها صاحبة المكان فوهبته هبةً للمركز مع تأثيثه، وهي الناشطة الاجتماعية "دلال" من عائلة آل باحسين بمدينة الخبر، من أجل تقديم العناية والتدريب والتعليم لهؤلاء الأطفال، ويعتمد تشغيلياً وتدريبياً وتعليمياً على أيدي فتياتٍ سعودياتٍ رائعات.

ونحن نهمّ بالخروج، سمعتُ الرجلَ الصموتَ المتكتم – سامحني الله على النقل - "راشد السويكت"، يشير للسيدة الكردي بوقاره وحيائه وتكتمه:" ألا تقلقي من أي شيء.. فنحن معكِ".

قولٌ وفعلٌ يا بن سويكت

وبقي أن تصير منشأتًها الصغيرة "جمعية" لكي تتمدد إمكاناتـُها، وهذا من صالح العمل المهم الذي تقوم به، وهي مهمّة أرجو أن أنقلها للوزير الإنسان "يوسف العثيمين" اليوم، الذي سيرعى مناسبة تقيمها جمعية مكافحة التدخين حيث دُعيت لتلقي تكريم لا أعرف كيف استحققته، في أمر تحقيق أملٍ يبدو صغيراً في حجم مهامّه ومسؤولياته، ولكنه كبيرٌ جداً، للسيدة كردي، ليس فقط من أجل ولدها.. ولكن من أجلنا كلنا!